هل مصر أكثر رأسمالية من بريطانيا وأسبانيا ؟ هذا ما اكتشفته الاسبوع الماضى ، عندما قرأت قرار الحكومة الاسبانية بتحديد سقف أجور قيادات البنوك بما لا يتجاوز 006 ألف يورو فى السنة وذلك بما يتلائم والازمة الاقتصادية التى تمر بها حاليا، وبعده بأيام قليلة تناولت الصحف البريطانية قضية اخرى مماثلة تتعلق بالحد الاقصى لأجور رؤساء الشركات الكبرى ، وذكرت أن ثمة اتفاقاً بين وجهتى نظر رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون، وزعيم حزب العمال الذى يقود المعارضة حاليا بشأن ضرورة وضع سقف لأجور القيادات العليا فى الشركات الكبرى بعد ارتفاع متوسط دخولهم السنوية لنحو 5٫4 مليون استرلينى سنويا أى نحو 573 ألف استرلينى شهريا ، رغم ان غالبية هذه الشركات هى شركات عالمية إلا أنها تأسست فى بريطانيا ولايزال مقرها الاساسى هناك ، لم يعد هذا الامر مطلبا قاصرا على حزب العمال بل اضحى تشاركه فيه حكومة حزب المحافظين بعد ان تجاوز الحد الاقصى لأجور رؤساء بعض الشركات إلى 74ضعف الحد الادنى ، مما دعا رئيس الوزراء البريطانى للمطالبة بأن يكون لحملة الاسهم بهذه الشركات دور فى تحديد سقف اجور رؤساء هذه الشركات ، ودراسة تدخل الحكومة بشكل او آخر لتقنين هذا الامر ، ويتبنى كاميرون هذا الاتجاه على الرغم من وجهة نظر البعض بان هذه الشركات بالاساس هى عالمية يتخطى نشاطها بريطانيا الى العديد من الاسواق والدول الاخرى ، وانه من المهم اجتذاب القيادات التى تتمتع بالكفاءات والخبرات على رأس هذه الشركات فى ظل المنافسة الشديدة بين الشركات العالمية إلا أن ذلك لم يحل دون تصميم الحكومة على السعى لوضع سقف لأجور هذه القيادات . فى المقابل لم تنجح الحكومات المتعاقبة بمصر بعد ثورة 52 يناير التى نادت بتحقيق العدالة الاجتماعية كأحد المطالب الرئيسية وظلت تشدد عليها طوال الوقت ،غير أن ذلك لم يفلح فى دفع أى من الحكومات المتعاقبة لتطبيق حد أقصى للإجور على مدى عام كامل من الثورة ، رغم الوعود القاطعة التى اعلنتها ورددتها مرارا وتكرارا حكومة د. عصام شرف ،وإن كان وزير المالية الأسبق الدكتور سمير رضوان اعلن فى وقت مبكر من مايو 1102 عن الاتفاق على ان يكون الحد الاقصى يمثل 63 ضعف الحد الادنى والذى تم تحديده ب 007 جنيه شهريا غير ان التطبيق ظل بعيد المنال، كما استحوذت هذه القضية جانبا مهما من اهتمام الدكتور حازم الببلاوى الذى تولى وزارة المالية بعد رضوان فى حكومة شرف ، كما نالت حظا وافرا من تصريحاته ،و اعلن عن الانتهاء من دراسة شاملة لدخول القيادات فى القطاعات الاقتصادية التى تتقاضى رواتبها او مكافآتها من المال العام ، وأن هذا السقف لن يتجاوز 63 ضعف الحد الادنى ، ولكن على مايبدو أن كل هذا لم يخرج عن كونه ضجيجا بلا طحن حيث لم يتجاوز الكلام إلى حيز التنفيذ ! وإن برأ الببلاوى ذمته فى هذا الشأن بأنه تقدم بتوصيات الدراسة التى اعدتها وزارة المالية الى مجلس الوزاء لإقرارها وتطبيقها ، واعلنت الحكومة وقتها عن بدء تطبيق الحد الاقصى للاجور فى يناير 2102 ولكن على ما يبدو كانت تعلم انها سترحل قبل مجئ شهر يناير ، وإن كان كثير من الوزراء غير مرحبين بتطبيق الحد الاقصى للاجور عند مناقشة الامر فى احدى اللجان الوزارية وهو ما باح به لى احد الوزراء معبرا عن دهشته الشديدة إزاء مواقف بعض هؤلاء الذين كانوا يطالبون طوال الاوقات بذلك قبل أن يتولوا مناصبهم ! ربما كان من المفيد فى هذا الصدد الاشارة ايضا الى انه عندما عزم احد الوزراء أمره –د.محمود عيسى وزير الصناعة والتجارة – وقرر ان يطبق الحد الاقصى للاجور فى الهيئات والاجهزة التابعة للوزارة وذلك فى شهر نوفمبر الماضى ، فأنه واجه الكثير من المتاعب والعقبات ، بل إن احد القيادات فى احدى هذه الاجهزة لم يتورع عن الالتفاف على القرار ويعيد ما تم اقتطاعه مرة اخرى تحت مسمى مختلف ، إلى أن كشف أمره أحد العاملين بوازع الضمير ، وقرر الوزير اتخاذ الاجراءات القانونية ضده ، والمغزى من سرد هذه القصة هو توضيح الثغور العديدة فى القوانين واللوائح التى تمكن القيادات فى هذه الهيئات والاجهزة الحكومية من الحصول على دخول ومكآفات بمسميات عديدة ومختلفة غير منظورة قد لاتقع تحت وطأة القانون خاصة وان هذه الاجهزة عامرة بالمستشارين الذين لديهم باع طويل فى التغلب والالتفاف والاستفادة من القصور فى القوانين واللوائح . ورغم ان الدكتور الجنزورى اعلن انه خفض دخول الوزراء وتبرع براتبه – وهو امر لاشك جيد ويجب ان نشكره عليه – ولكنه لم يعلن للآن عن سياسة واضحة تتسم بالشفافية يتم تطبيقها فيما يتعلق بالحد الاقصى للاجور -على الاقل- فى كافة القطاعات الاقتصادية والمالية التى يحصل العاملون فيها على دخولهم من المال العام . يطرح ذلك بالتأكيد بعض الاسئلة المهمة .. هل تغيرت ميكانزمات الاداء التنفيذى على مستوى الحكومة بعد الثورة ؟ الواقع يشير الى اننا لانزال نسمع اكثر مما نرى ،فهل تصريحات المسئولين لا تزال للاستهلاك الإعلامى وتهدئة الرأى العام والشارع ؟ أم أن هناك آيادى خفية تمتلك القدرة على الحيلولة دون تنفيذ هذه السياسات التى تضر بمصالحها حتى بعد الثورة ؟ واذا كان الامر كذلك فهل يستمر الوضع كذلك بعد نشاط مجلس الشعب فى التشريع والرقابة ؟ نحن ننتظر تصريحات إعلامية من الحكومة ولكن بعد تطبيق الحد الاقصى للاجور فى كافة القطاعات الاقتصادية والمالية مثل بريطانيا واسبانيا وكفانا تصريحات الاستهلاك الإعلامى كما كان الحال فى السابق خاصة بعد أن امتلك الشعب الآن الكلمة العليا وهو الذى يتابع ويراقب ويحاسب من خلال المؤسسات المنتخبة التى يجب أن تعبر عن تطلعاته فى اداء مختلف يلبى مطالب وأهداف الثورة وفى القلب منها العدالة الاجتماعية .. ولا يختلف أحد على أن الأزمة الاقتصادية التى تعانى منها مصر الآن تفوق ما تواجهها هاتان الدولتان بمراحل .