التعامل معهم يتطلب مهارات «خارقة».. ويكتفون ب3 مواد فقط أصوات السيارات ومعارك المارة تتداخل فيما بينها.. الزحام شديد، والجميع يستعدون للوصول إلى أعمالهم.. ننعطف يسارًا في اتجاه شارع "محيى الدين أبو العز"، بمنطقة المهندسين بالجيزة لتستمر ملاسنات الباعة مع الزبائن، ومعركة بائعة الخبز مع موظف يتأبط إحدى الصحف اليومية، وفى اليد الأخرى يحمل "قرطاس" الطعمية، و"كيس الفول"، استعدادًا ليوم عمل جديد. يستمر الوضع هكذا، شارع يعج بالضجيج والحياة فيه.. لا يهدأ له ساكن، لتجد على اليسار في الناصية الثالثة، هدوءا يخيم على مبنى مكون من ثلاثة طوابق، يتاخم عمارات شاهقة ومحال تجارية، ما يميزه عن غيره من أبنية شارع "محيى الدين أبو العز" كونه مكسوا بألوان علم مصر الثلاثة، وبوابته الحديدية تتخذ نفس الشكل. ساحة متوسطة المساحة خافت ضوؤها، على اليمين تجلس فتاتان يبدو أنهما تودعان العقد الأول حديثًا، تتجاذبان أطراف الحديث، وتلعبان "الاستغماية" في عفوية شديدة، ملامحهما تدل على إصابتهما بمتلازمة "داون"، تصدران أصواتا لا يفهمها سواهما، والسيدتان اللتان اتخذتا من سلم المدرسة، الذي يتوسط ساحتها، مجلسًا للتحدث عن مشكلاتهما الحياتية التي لا تتوقف، فتلك تركها زوجها ومعها فتاتان، وأخرى تتمنى أن "يطفش" زوجها لترتاح من ملاسناته وطول يديه. هكذا تبدو الحياة في إحدى المدارس "الفكرية" في مصر، فتيات وأولاد شاءت الظروف أن يولدوا بإعاقة ما، تجعهلم يبذلون كثيرًا من الجهد، من أجل خوض غمار هذه الحياة التي عادة ما تعج بالتفاصيل المتشابكة، فكيف لهؤلاء أن يتأقلموا معها!، سؤال طرحته "أم إسراء"، عاملة نظافة بإحدى المدارس الفكرية لتربية وتهذيب ذوى القدرات الخاصة، ووالدة ل"شهد" 14 عامًا، التي ولدت بمتلازمة "داون" فأصبحت طالبة بذات المدرسة.. "أنا الأول كنت خايفة أجيبها هنا المدرسة؛ لأن معظم الناس بتنفر منها رغم أنها طبيعية وذكية واجتماعية كمان". تشير أم إسراء إلى فتاة متوسطة الطول، علامات الأنوثة بدأت في الزحف إلى جسدها تدريجيًا، "بطمن عليها هنا عن أي مكان تانى أو مدرسة تانية". وتؤكد أم إسراء أنها جاءت منذ 12 عامًا للعمل في هذه المدرسة حتى تكون بجانب ابنتها، فضلًا عن سعادتها التي لا تجدها إلا بين أرجاء هذا المبنى بسيط الهيئة.. "إحنا كل الأبواب المقفلة بتتفتح لنا أول ما رجلينا تخطى المكان ده"، لأجل ذلك تحرص أم إسراء وزميلاتها ممن عملن في المدرسة على خدمة الأطفال، والاعتناء بهم إلى جانب الاعتناء ببناتهن. صدفة قدرية قد تبدو غريبة على البعض، في هذه المدرسة تختلط عاطفة الأمومة بمسئولية المرأة كعاملة، فكأن الله شاء أن يجعل كل عاملة مسئولة عن تلبية طلبات الأطفال من مأكل وملبس ونظافة، علاوة على تنظيف المدرسة، حتى تبدو لائقة طوال الوقت، في نفس الوقت هذه العاملة أم لأحد طلاب أو طالبات المدرسة، ولكن الأمر يختلط على زائر المكان للمرة الأولى، فلا تستطيع أن تحدد أيهن أمُّ أسماء، ومن تكون أمُّ شهد، وأين توجد أمُّ حنين، بين تلك النسوة الجالسات بين أعواد الملوخية وأكياس البطاطس، كأنهن قد اقتطعن جزءًا من المدرسة لتحويله إلى ساحة سجالات ونقاشات لا تنقطع، وأيدِ لا تتوقف عن العمل في هذه الطبخة أو تلك. تقول "أم أسماء"، عاملة بالمدرسة، وهى في الوقت ذاته أم لطالبة بالصف الثالث الابتدائي: "بنتى عندها 13 سنة.. كنت وديتها مدرسة حكومى عادية، وزمايلها كانوا بيستغربوها، ويضربوها كتير، لحد ما قررت أطلعها".. فبالرغم من قدرة تلك الفتاة على التحدث، وإن كانت طريقتها في الكلام ضعيفة ويشوبها بعض الالتباس، فإنها لم تستطع أن تنخرط في حياة "العاديين" منذ ولدت، كأن جبينها قد كُتبت عليه عبارة "غير لائقة"، وبات من الصعب أن تتعايش، لأنها كما أكدت والدتها، "غريبة عليهم بسبب إصابتها بمرض يشبه التوحد، ثم تنظر السيدة إلى قدميّ فتاتها المتقوستين في وضع يجعلها ترتدى حذاءها مقلوبًا، وتقول: "زمايلها كانوا بيتريقوا عليها ويقولوا لها لابسة الجزمة بالمقلوب"، إلى أن سمعت بالمدرسة منذ ثلاث سنوات فقررت أن تلتحق وابنتها بها، لتصبح مع الأيام بيتهم الثانى بل وطنهم الأكثر دفئًا، بعيدًا عن زوج ضاق ذرعًا بابنة "معاقة"، وأم لا يهدأ لها بال، بعد أن قضت سنوات تشكو من سوء معاملة الأطفال لابنتها، مما تسبب في انزوائها الدائم عن باقى زميلاتها، فهى طوال الوقت تتكئ على درجات أحد السلالم متمسكة بذراع صديقة والدتها، كأن هذا الذراع سيحمى جسدها النحيل من خطر قادم لا محالة! وفقًا لما أكده سعد، أحد مدرسى المدرسة، يوجد في المبنى المكون من ثلاثة طوابق نحو 250 طالبا وطالبة، تنحصر مشكلاتهم في الإصابة بمتلازمة "داون"، أو بدايات مرض التوحد، أو حتى "التأخر الدراسي"؛ نظرًا لوجود قصور في وظائف المخ. يقول: "أغلب الحالات عندنا داون خاصة من البنات، ودول جسمهم بيكبر لكن بيفضل عقلهم متوقف عند سن طفولى معين، علشان كده أعلى مستوى تعليمى عندنا 3 ابتدائي"، فمهما ازداد عمر الطالب أو الطالبة داخل أروقة المدرسة، نهاية مطافه التعليمى هو الصف الثالث الابتدائى، كذلك محدد لهم مناهج دراسية معينة تتخذ طابع "الخاص"، هذه الكلمة التي لازمتهم منذ ولادتهم، وكأنهم جميعًا أسوياء إلا من متلازمة "خاص"، فيقول سعد: "إحنا هنا المواد بتقتصر على العربى والحساب وبدايات في الإنجليزي، لأن تفكيرهم على قدهم، مهما كبر حجمهم الجسماني، لازم نعاملهم كأنهم أجنة محتاجة رعاية وطول بال".