عادة تكون التجربة القاسية التي يمر بها الإنسان في فترة من حياته لها تأثيرها وحساسيتها في نفسه وفى تفكيره وطريقة تناوله للأمور، خاصة إذا كانت هذه التجربة مرتبطة بفقدان ولد عزيز وأثير لديه.. لذا رفض الأب يعقوب (عليه السلام) أن يستجيب لأولاده العشرة (إخوة يوسف) بإرسال ابنه بنيامين معهم حتى يعطوه العهد والموثق أنهم سوف يحافظون عليه، وأن يكونوا على يقظة وانتباه مما يجرى حولهم.. فهم سوف يقطعون مسافات طويلة في الصحراء القاحلة قبل الوصول إلى مصر، وقد يعترضهم قطاع طرق فيعتدون عليهم أو يقومون بخطف أخيهم أو يستولون على ما معهم من مال أو متاع.. (فلما أتوه موثقهم) أي فلما أقسموا له أنهم سوف يكونون عند حسن ظنه (قال الله على ما نقول وكيل)، أي أن الله شهيد ورقيب على ذلك.. وأوصاهم فقال (يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) أي نصحهم بألا يدخلوا مصر من باب واحد، قال المفسرون: خاف عليهم من عيون الحاسدين إن دخلوا مجتمعين، فقد كانوا أهل جمال وقوة وفتوة وهيبة، فضلا عن عددهم.. وأرى - والله تعالى أعلم - أنه خاف عليهم من رجال السلطة الذين يرصدون القادمين الغرباء عند مداخل البلاد، فلربما أثاروا انتباههم أو التبس عليهم أمرهم، فيقبضون عليهم أو على بعضهم لمساءلتهم.. ثم قال: (وما أغنى عنكم من الله من شيء) أي - مع ذلك - فأنا لا أدفع عنكم بنصحى هذا شيئا مما قدره الله وقضاه، فإن الحذر لا يمنع من قدر (إن الحكم إلا لله)، وليس لى إلا أن آخذ بالأسباب ثم أتوكل على خالقى.. (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) أي من الأبواب المتفرقة بناء على وصية أبيهم لهم (ما كان يغنى عنهم من الله من شيء)، أي ما كان دخولهم متفرقين ليدفع عنهم شيئا قضى الله تعالى به (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) أي إلا خشية من تعرضهم لأى نوع من الأذى، شفقة منه على بنيه (وأنه لذو علم لما علمناه) أي وأن يعقوب لذو علم واسع من لدنا أوحينا به إليه (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي لا يعلمون ما خص الله به أنبياءه من العلوم والمعارف التي تنفعهم في الدنيا والآخرة.