عادة ما يتأرجح العباد الصالحون في علاقتهم بالله سبحانه بين الخوف والرجاء، فلا هم يميلون بالكلية إلى هذا، ولا إلى ذاك.. في هذا المعنى يحدثنا المولى تعالى في كتابه الكريم عن الأنبياء الذين كانوا يجدون في طاعته ويتسابقون في فعل الخيرات، فيقول: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا، وكانوا لنا خاشعين" (الأنبياء: 90)، أي يدعونه طمعا ورجاء في رحمته، وخوفا وفزعا من عذابه.. وفى التعامل مع النفس البشرية السوية في حياتنا العادية، لابد من تطبيق مبدأ الثواب والعقاب ضمانا لتماسك المجتمع والحفاظ عليه، لذا يقال: "من أمن العقوبة أساء الأدب".. وقد رأينا في مجتمعاتنا كيف أن أناسًا من أصحاب الحظوة ارتكبوا أعمالا مخالفة للقانون ولم يحاسبهم أحد، فكانوا أحد أسباب تفككها وتدهورها.. وقد لجأ يوسف عليه السلام، إلى اتباع أسلوب الترهيب والترغيب مع إخوته، فأفهمهم صراحة أنه سوف يمنع عنهم الطعام في المرة القادمة إن هم لم يأتوا بأخيهم معهم، أما إذا أتوا به فسوف يبالغ في إكرامهم.. وطوال طريق العودة، انشغلوا بما طلبه يوسف منهم، خاصة أنهم يرغبون في الكيل مرة أخرى، وهو ما جعلهم يتحدثون إلى أبيهم مباشرة فور عودتهم في هذا الأمر، حتى قبل أن يفتحوا أوعيتهم (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل)، فقد أنذرنا ملك مصر بمنع الكيل مرة أخرى إن لم نأت بأخينا.. وكى يزيلوا مخاوف أبيهم يعقوب، أكدوا له أنهم سوف يحافظون عليه من أي أذى أو مكروه (وإنا له لحافظون)؛ لأنهم يعلمون جيدا كيف أن التجربة الأولى مع يوسف تركت آثارا سيئة على الأب طيلة 22 سنة.. فما كان منه إلا أن رد عليهم قائلا: (هل ءامنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل، فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين)، ثم استطرد يقول: أنا لا أثق إلا في حفظ الله وحده، فهو سبحانه أرحم به من والديه وإخوته، وأرجو أن يمن على بحفظه ولا يجمع على مصيبتين.. (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم)، فأصابتهم فرحة ممزوجة بالدهشة (قالوا يا أبانا ما نبغى)، أي نحن لا نستهدف أكثر من هذا الكرم العظيم (هذه بضاعتنا ردت إلينا)، أي هذا هو ثمن الطعام قد رد إلينا... فهل هناك ما هو أكثر نبلا وكرما من هذا الإحسان؟ يا أبانا: لا تخش شيئا ودعنا نأخذ أخانا فإن وجوده معنا سوف يزيد من الجمال واحدا وسوف نأتى بالميرة هذه المرة بأوفى ما يكون.. (وللحديث بقية إن شاء الله).