التغذية المدرسية ليست بدعة مصرية، لكنها نظام عالمى معمول به في 169 دولة على مستوى العالم، وهذه الدول تعتمد على برامج مختلفة من الوجبات المقدمة لطلاب المدارس، ويحدد شكل برنامج التغذية المدرسية المستوى الاقتصادى لكل دولة من تلك الدول، وفى المجمل يستفيد من الوجبات المدرسية أكثر من 368 مليون طالب على مستوى العالم. لكن هنا في مصر، تعانى منظومة التغذية مشكلات وأزمات متعددة أدت جميعها إلى الكارثة الحالية التي كان من نتائجها إصابة أكثر من 5 آلاف طالب وطالبة بحالات اشتباه تسمم في نحو 10 محافظات، وقد أجبرت الحوادث تلك وزارة التربية والتعليم على اتخاذ قرار بوقف صرف الوجبة المدرسية في جميع المدارس، وإلى جانب تشكيل لجنة عليا تضم جهات رقابية وممثلين عن عدد من الوزارات المعنية بالوجبة لمتابعة الحالة والتحقيق في تلك الواقع التي يعنى تكرار حدوثها أن الوضع الراهن لمنظومة التغذية أصبح خطيرًا على صحة الطلاب. من المفارقات الغريبة في وقائع تسمم الطلاب بسبب الوجبة المدرسية، أنه لم يصدر حتى الآن قرار إدانة لأى جهة من الجهات، ولم يتم تقديم مسئول واحد إلى جهات التحقيق باعتباره أحد المتسببين في تلك الكوارث، ومع زيادة حالة الضغط الإعلامي تنصلت كل جهة من المسئولية، وألقت باللوم على الجهة الأخرى، والسبب في ذلك كله يرجع إلى حالة التشوه التي تعانى منها منظومة التغذية المدرسية المصرية، حيث إن 7 جهات تشترك في منظومة التغذية، وهى التربية والتعليم والصحة والتموين والتجارة والصناعة والزراعة والمركز القومى للتغذية ومركز معلومات الغذاء، وكل جهة من تلك الجهات تنفى التهمة عن نفسها. ومع كثرة المسئولين وعدم وجود إطار تشريعى واحد يحدد مسئوليات كل جهة والعقوبات التي يمكن توقيعها على المقصرين تتوه المسئولية وتضيع الحقيقة، وتنتهى الأمور إلى تحقيقات صورية في الغالب تنتهى بأن العينات كلها سليمة وأن ما حدث للطلاب مجرد إيهام نفسى وليس تسممًا. دراسة أعدها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء حول منظومة التغذية المدرسية، أشارت إلى أنه بعد دراسة كل التشريعات المتعلقة بتلك المنظومة من خلال القاعدة القومية للتشريعات المصرية تبين أن هناك غيابًا واضحًا للإطار التشريعى المنظم لبرامج التغذية المدرسية، حيث تنظم تلك البرامج من خلال مجموعة من القرارات الجمهورية والتي لا ترقى إلى مستوى التشريعات، كما أن هذه القرارات في أغلبها عبارة عن موافقات على خطط التعاون بين الحكومة وبرنامج الأغذية العالمي، ولم تتطرق أي منها إلى كيفية التنظيم والتنسيق بين الوزارات المختلفة والمحافظات في تلك المنظومة، وغياب وجود قانون أو إطار تشريعى يحكم تلك المنظومة جعلها مفككة وتعتمد على أهواء الأشخاص القائمين على تنفيذها في الغالب. تاريخ التغذية ورغم أن وجود وجبة تقدم للطلاب الذين يدرسون قديم في التاريخ المصري، حيث كان موجودًا منذ نشأة ديوان المدارس في عهد محمد على باشا، وكذلك كان الوضع مع الطلاب الذين كانوا يدرسون في الأزهر الشريف، إلا أن نظم توفير الوجبات المدرسية اختلفت مع الوقت، وتعد البداية الفعلية للمنظومة الموجودة بشكلها الحالى عام 1981، وتوضح دراسة مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار أن ميزانية التغذية المدرسية منذ العام الدراسى 1991\1992 وحتى العام الدراسى 2011\2012 كانت أقل من 400 مليون جنيه، إلا أن تلك الميزانية قفزت في عام 2012\2013 إلى 792 مليون جنيه هي قيمة الاعتمادات التي خصصتها الحكومة لبرامج التغذية المدرسية في المدارس الحكومية التابعة لوزارة التربية والتعليم، وتصل قيمة التغذية المدرسية للعام الدراسى الحالى أكثر من مليار جنيه تشمل المخصصات الحكومية والمعونات المقدمة من برنامج الغذاء العالمى للمدارس المصرية، ورغم ذلك فإن تلك القيمة أقل كثيرا من الخسائر الاقتصادية التي تترتب على نقص الغذاء المقدم لتلاميذ المدارس، والذي كان يقدر بنحو 20 مليار جنيه في عام 2009 هي إجمالى قيمة الخسائر المترتبة على سوء تغذية الطلاب في مرحلة عمرية مبكرة. ما سبق يؤكده المسح السكانى الصحى الذي أجرته الدكتورة فاطمة الزناتى بالتعاون بين وزارة الصحة والسكان ومنظمة الأممالمتحدة للطفولة، والذي أوضح أن نقص التغذية يجعل الطلاب في المناطق الريفية أكثر عرضة للإصابة بأمراض التقزم من طلاب المناطق الحضرية، هذه الحقائق تؤكد أهمية التغذية المدرسية وضرورتها بالنسبة للتلاميذ في تلك المرحلة العمرية، وأنه لا يمكن الاستغناء عنها والمطلوب زيادة نسبة المستفيدين منها، حيث إن الوجبة المدرسية لا توزع على كل الطلاب وإنما هي تغذى أقل من 50% فقط من طلاب المدارس، وتكون الأولوية فيها لطلاب مدارس التربية الخاصة ثم طلاب رياض الأطفال والابتدائية. سماسرة التعاقدات وبالعودة إلى المنظومة الحالية للتغذية المدرسية يتضح أنها تدار بشكل لا مركزي، حيث تحدد كل مديرية تعليمية احتياجها المالى للتغذية، ومن جانبها توفر وزارة المالية تلك المبالغ للمديريات، وبعد ذلك تطرح كل مديرية مناقصة عامة لتوريد الأغذية للمدارس، وتشكل لجنة من 9 أعضاء برئاسة مدير مديرية التعليم بالمحافظة وبعضوية مدير مديرية الصحة ومدير مديرية التموين ومدير مديرية الزراعة أو من ينوب عنهم، وهذه اللجنة تعلن عن فتح الباب للمناقصة، وتتقدم الشركات الراغبة في العمل، وتستعلم المديريات التعليمية عن تاريخ الشركات الصحى والصناعى والتمويني، ويتم اختيار الشركات ذات التاريخ الطويل. الإجراءات السابقة، إلى هنا، يمكن القول إنها تسير بشكل جيد قبل أن يتدخل "سماسرة التعاقدات" في كل مديرية تعليمية وعادة ما يكون هؤلاء هم المسئولين عن الإدارة التنفيذية والأنشطة بالمديرية، أو بعض الموظفين من ذوى النفوذ بالمديريات، ويبدأ هؤلاء في ممارسة ضغوطهم من أجل إرساء التعاقدات على شركات بعينها. مصادر بوزارة التربية والتعليم، أكدت أن هناك عمولات يتحصل عليها مسئولون بالمديريات تقدر بمئات الآلاف نظير ترسية عطاءات توريد التغذية المدرسية على كيانات بعينها. ولفتت المصادر إلى أن سماسرة التعاقدات في المديريات لا يقتصر دورهم على تسهيل التعاقد مع شركة كبرى أو مصنع ضخم، لكنه يصل في بعض الأحيان إلى تسهيل التعاقد من الباطن بين الشركات الكبرى وبعض الموردين الصغار لتوريد الكميات المطلوبة من الباطن مقابل عمولات ضخمة، مؤكدة أن تلك الأمور من الصعب ضبطها إلا بتغيير شكل المنظومة الحالية وإيجاد تشريع يحدد كل شيء في ملف التغذية المدرسية. من جهتها، أكدت الدكتورة بثينة كشك، مديرة مديرية التربية والتعليم بالجيزة سابقًا، أن ملف التغذية المدرسية شائك للغاية، وأنه يحدث تلاعب كبير في بعض الأحيان من قبل بعض الموردين، لافتة النظر إلى أنها أحالت أثناء توليها مسئولية التعليم بالجيزة واقعة التلاعب في تاريخ صلاحية التغذية المدرسية إلى التحقيق بعد أن اكتشفت أن مورد التغذية قد ورد بعض كراتين البسكويت بها تواريخ صلاحية مزورة. في ذات السياق أوضح مصدر بمديرية التربية والتعليم بالجيزة -تحفظ على ذكر اسمه- أن وجبات التغذية يتم صرفها وفقا للأعداد التي ترسلها الإدارات التعليمية، وبعض تلك الأعداد تتضمن طلابا منقطعين أو متسربين، وكذلك فإنه يتم صرف وجبات الطلاب المتغيبين ولا تكون هناك مرتجعات، وهذا فساد يحتاج إلى الضبط بشكل أو بآخر؛ لأن تلك الوجبات يتم بيعها للطلاب مرة أخرى عن طريق "كنتين" المدارس وفى الغالب يسيطر على "الكناتين" مديرو المدارس. وحول الحلول المقترحة للخروج من أزمة التغذية المدرسية، قالت راندا حلاوة، رئيسة الإدارة المركزية للتسرب من التعليم: الوزارة تنتظر انتهاء اللجان المشكلة للتحقيق في الوقائع الأخيرة، وهناك مقترح بأن تكون إدارة التغذية المدرسية بشكل مركزى إلا أن هذا الأمر لم يتم حسمه حتى الآن، ومن المقرر أن تكون هناك رقابة صارمة على أماكن التخزين في الإدارات التعليمية والمدارس لضمان سلامة الوجبة.