الجبهة الوطنية بالمنيا: نعمل لصالح المواطن بعيدًا عن أي اصطفافات سياسية شكلية    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    لا أماكن بكليات الهندسة للمرحلة الثانية.. ومنافسة شرسة على الحاسبات والذكاء الاصطناعي    الكهرباء تبدأ اختبار الكابلات لإعادة التيار للمناطق المتأثرة بالفصل في الجيزة    بعد تصدره التريند.. استقرار سعر الدولار أمام الجنيه المصري في التعاملات الصباحية ليوم الإثنين 28 يوليو 2025    بارقة أمل في مفاوضات غزة.. هل اقتربت هدنة ال60 يوما بعد استئناف المباحثات؟    السودان: تطورات سياسية وميدانية متسارعة وسط دعم أممي وتنديد إقليمي بمحاولات تقويض الانتقال    ذهبيتان وفضية لمصر في أول أيام منافسات دورة الألعاب الإفريقية للمدارس    تعرف على مواعيد مباريات المصري بالدوري خلال الموسم الكروي الجديد    مدرب بيراميدز يهاجم تحديد موعد المباراة تحت درجات حرارة قاتلة: "الأمر يتعلق بصحة اللاعبين وليس بالمنافسة"    مصرع أمين شرطة متأثرا بإصابته في حادث أودى بحياة مدير أمن الوادي الجديد    بالأسماء.. إصابة 5 أشخاص في انقلاب سيارة بصحراوي البحيرة    اصطدام قطار المناشي بجرار زراعي أمام قرية بالبحيرة دون خسائر بشرية | صور    الحكومة: حملات مرورية مكثفة وتشديد الرقابة لمنع القيادة تحت تأثير المخدرات    إيهاب توفيق يحيي أولى حفلات المهرجان الصيفي للأوبرا باستاد الإسكندرية    السيطرة على حريق بمصنع "كريازي" في العبور    ردا على الأهلي، ماذا فعل الزمالك مع زيزو قبل لقاء القمة؟    حسين الشحات: لن أرحل عن الأهلي إلا في هذه الحالة، والتتويج أمام الزمالك أسعد لحظاتي    بعد 26 ساعة من العمل.. بدء اختبار الكابلات لإعادة التيار الكهربائي للجيزة    الداخلية: وفاة نزيل عقب نقله من محبسه إلى المستشفى بالدقهلية    تنسيق الكليات 2025، الحدود الدنيا لجميع الشعب بالدرجات والنسب المئوية لطلبة الثانوية بنظاميها    وزير الزراعة: تجاوز صادرات البطاطس 1.3 مليون طن للمرة الأولى    تنسيق الثانوية العامة 2025.. مؤشرات كليات الطب البيطري 2024 المرحلة الأولي بالنسبة المئوية    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بمدينة الخانكة    الصفاقسي التونسي يعلن تعاقده مع علي معلول.. والتفاوض مع لاعب الزمالك    الغندور يعلن رحيل نجم الزمالك.. ويكشف وجهته المقبلة    الحوثيون يعلنون عن خطوات تصعيدية جديدة ردا على الحرب فى غزة    رابطة العالم الإسلامي: مؤتمر "حلّ الدولتين" فرصة للوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ    إسرائيل تفرض رقابة عسكرية مُشددة على المُراسلين الأجانب الراغبين في دخول غزة    مقتل 4 على الأقل إثر خروج قطار يحمل نحو 100 راكب عن مساره جنوب ألمانيا    الاحتلال يقصف حَيَّيْ التفاح والشجاعية في مدينة غزة    خلال اجتماعه مع رئيس الوزراء.. " كامل الوزير" يستعرض خطة تطوير الطريق الدائري الإقليمي    الأرصاد تحذر من ارتفاع الأمواج في عدد من الشواطئ (تعرف عليها)    السكرتير العام المساعد لمحافظة الجيزة: عودة المياه لمعظم المناطق المتأثرة خلال ساعة    أحمد نبيل: تعليم الأطفال فن البانتومايم غيّر نظرتهم للتعبير عن المشاعر    وزير السياحة: ترخيص 56 وحدة فندقية جديدة و60 طلبًا قيد الدراسة    «اللي بيتكلم مجنون».. مدحت شلبي يهاجم مسؤول في الأهلي بتصريحات قوية    متخليش الصيف ينسيك.. فواكه ممنوعة لمرضى السكر    معاناة حارس وادي دجلة محمد بونجا.. أعراض وأسباب الإصابة ب الغيبوبة الكبدية    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. استشهاد 4 فلسطينيين فى قصف الاحتلال على خان يونس.. هزات أرضية وصلت ل3.8 درجة بمقياس ريختر فى ميانمار.. مقاتلون سابقون فى طالبان نقلوا لبريطانيا حفاظا على سلامتهم    دفاع أحد ضحايا سفاح المعمورة بعد الحكم بإعدامه: طالبنا بتعويض مدنى مليون جنيه    أم وابنها يهزمان الزمن ويصنعان معجزة فى الثانوية العامة.. الأم تحصل على 89% والابن 86%.. محمد: ليست فقط أمى بل زميلتي بالدراسة.. والأم: التعليم لا يعرف عمرا وحلمنا ندرس صيدلة.. ونائب محافظ سوهاج يكرمهما.. فيديو    المعهد القومي للكبد: مصر حققت إنجازًا عالميًا في القضاء على فيروس "سي"    «قالوا لي إني ميتة».. أنوار تروي مأساة 9 سنوات انتهت باختفاء الزوج ووقف المعاش    حددت شروطا للظهور به وارتدته وخلعته قبل 11 عاما.. قصة سما المصري مع الحجاب بعد «فيديو البكاء»    أخبار × 24 ساعة.. توقعات بارتفاع الحد الأدنى لتنسيق كليات علمى من 1 ل2%    طه عزت: الموسم المقبل بلا تأجيلات.. وهناك تنسيق مع حسام حسن بسبب الأجندة الدولية    الباذنجان مهم لمرضى السكر والكوليسترول ويحمي من الزهايمر    بعد توقف 11 عاما.. رئيس حقوق الإنسان بالنواب يُشارك في تشغيل مستشفي دار السلام    رغم ارتفاع درجات الحرارة.. قوافل "100 يوم صحة" تواصل عملها بالوادى الجديد    رفضت عرسانًا «أزهريين» وطلبت من زوجها التعدد.. 19 معلومة عن الدكتورة سعاد صالح    في الحر الشديد.. هل تجوز الصلاة ب"الفانلة الحمالات"؟.. أمين الفتوى يوضح    جامعة أسيوط تشهد فعاليات اللقاء العلمي "GEN Z ANALYSTS" بكلية التجارة    هل الحر الشديد غضبًا إلهيًا؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    بتوجيهات شيخ الأزهر.. قافلة إغاثية عاجلة من «بيت الزكاة والصدقات» في طريقها إلى غزة    البابا تواضروس يصلي القداس مع شباب ملتقى لوجوس    وزارة التربية والتعليم تعلن بدء تحويلات المدارس الدولية IPS    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمُّ كُلثوم والغناءُ الديني رِحْلَةُ الحَجِّ المُبارَكَةُ نموذجًا
نشر في فيتو يوم 29 - 12 - 2012

غنّت السيدة أمّ كُلثوم الكثير من القصائد الدينيّة، منها على سبيل المثال، قصائد الأوبريت الإذاعى عازفة الناى المعروف ب " رابعة العدويّة "، والذى أذيع للمرة الأولى فى مارس 1956م ، وبه عدد من الروائع الصوفية كلّها من أشعار طاهر أبو فاشا وألحان العمالقة رياض السنباطى ومحمد الموجى وكمال الطويل ، كما غنت قصيدة بالغة العمق وأروعة وهى " توبة " المعروفة ب " توبة " من أشعار الكائن النورانى عبد الفتاح مصطفى وألحان رياض السنباطى، وللأسف لا تذاع إلا لِماما، ولا يعرفها إلا خاصة الخاصة من محبّى فن أمّ كلثوم، بينما تأتى أغنيتاها لرحلة الحجّ كرأس الهرم الغنائى الذى يحتفى بهذه الرحلة المباركة، ويحتفى بها، ولهذا، آثرنا أن نتوقّفَ معهما كنموذج للغناء الدينى لهذه السيّدة العظيمة، وباعتبارهما نتاجًا لعُصارة إبداع أميرين : أمير شعراء الفصحى، وأمير شعراء الزجل ( أو العامية المصريّة ).
نحن إذًا أمام قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقى، وأغنية لأمير الزجل بيرم التونسى، الرائعة الأولى هى قصيدة " إلى عرفاتِ الله "، والرائعةُ الأخرى التى تُضارعُها وتقفُ إلى جوارِها رأسًا برأس، وأعنى بها " دعانى لبّيتُه " المشهورةَ ب "القلب يعشق" ، ويشاءُ القدرُ أنْ تكونَا من ألحان رياض السنباطى، أعظم من لحّنَ المعانى والصورَ، فصحى كانتْ أو زجليَّةً بالعاميّةِ الدَّارجة، وجَعَلَها كائناتٍ حيّةً تمرحُ فى تكوينِنا وذكرياتِنا كالفراشاتِ الملوّنة :
دعانى لَبّيتُه
( القلب يعشق )
بالرّغمِ منْ أنَّ أمّ كُلثوم قد غنّت هذه الرائعةَ الفريدةَ فى الهزيعِ الأخيرِ من مشوارِها الأسطورى، إلاَّ أننا آثرنا أنْ نأتى بها قبلَ " إلى عرفاتِ اللهِ " التى غنّتها فى ديسمبر 1951م، حتى نتهيَّأ بها للدخول إلى القصيدة .
" دعانى لبّيتُه " التى شاعتْ بعنوانٍ آخرَ هو " القلب يعشق كلّ جميل "، كتبها أميرُ الزجلِ، جدُّ شعراءِ العاميّةِ محمود بيرم التونسى، ولحّنها توءمُهُ الفذُّ زكريّا أحمد منتصفَ أربعينياتِ القرنِ العشرين، واختلفتْ معَهُ أمُّ كُلثوم حولَ اللحنِ، فسجّلها خصيصًا لإذاعة لندن ( القسم العربى، فى 1946م ) وتذاعَ بصوتِهِ فى شكلٍ مغايرٍ تمامًا لما نسمعُهُ الآن.
بعدَ رحيلِ بيرم وزكريّا بعشرةِ أعوامٍ كاملةٍ ( رحلَ بيرم التونسى فى الخامسِ من يناير 1961، ولحقَ بهِ زكريّا أحمد فى الرابع عشر من فبراير من العامِ نفسه ) وفى سهرةِ الخميس، الرابعِ من فبراير 1971م كانتْ مُفاجأةُ الوصلةِ الأولى من حفلِ أمّ كُلثوم الشهرى هى أغنيةُ " القلب يعشق " بألحان رياض السنباطى الذى نجحَ نجاحًا ساحقًا، للمرّةِ الثانيةِ مع أمّ كُلثوم، فى تلحينِ عملٍ سبقَ تلحينُهُ بفعلِ زملاء له ليتفوّقَ عليهم وينسيَنا اللحنَ الأوّلَ، وكانت المرّةُ الأولى قصيدة " أراكَ عصىَّ الدمعِ " التى غنّتها أمّ كُلثوم للمرةِ الأولى فى 1926م بلحن عبده الحامولى، ثمّ غنّتها للمرّةِ الثانيةِ بلحن زكريّا أحمد فى 1944م ( والتسجيلُ مفقودٌ، وهو من أهمِّ مفقوداتِ أُمّ كُلثوم ) ثمّ جاءَ السنباطى ليُضيفَ إلينا اللحنَ الثالثَ للقصيدةِ نعنى أبياتًا منها بالطّبع، لتشدو بها أمُّ كُلثوم للمرّةِ الأولى فى ديسمبر 1964م، وهو اللحنُ الذائعُ الآن.
" القلب يعشق "، إذا وضعناها فى مواجهةِ أزجالِ أمير الشعراءِ أحمد شوقى، نجدُها الرّدَّ العملى من بيرم على شوقى؛ إذ كانَ بيرم يكابدُ بالمنافى عندما بلغَهُ ما كتبَهُ شوقى بالزجلِ، العاميةِ المصريّة، للمطربِ الشابِ محمد عبد الوَهَّاب، فقالَ بيرم مُخاطِبًا شوقى :
" يا أمير الشّعر غيرَكْ
فى الزّجلْ يصبحْ أميرَكْ "
ولهذا قلتُ: إنّ " القلب يعشق " تناطحُ " إلى عَرَفَات " رأسًا برأس !!
يستهلُّ بيرم رائعتَهُ الدينيّةَ هذهِ بلمحاتٍ فلسفيّة، ثمّ يتهادى بين الكلماتِ متّشحًا مسحةً نورانيّةً هامسةً، وبدونِ الإغراقِ فى الترميزِ نكتشفُ أنّ الحبيبَ الذى يخاطبُهُ الشاعرُ الكبيرُ هو الحبيبُ الأعلى والأسمى والأبقى، اللهُ جلَّ جلالُهُ، وفى ظِلِّهِ حبيبُهُ على الأرضِ سيّدُنا وعَظِيمُنا محمّدٌ عليهِ أفضلُ الصلواتِ وأتمُّ التسليم .
يصطحبُ السُّنباطى عائلةَ الإيقاعِ فى كاملِ لياقَتِها البدنيّةِ، ويرشقُ معها القانونَ الذى تتطايرُ منهُ النغماتِ كقِطَعِ الضوءِ من مِسبحةٍ بينَ أصابعِ ولى صالح، وتحتشدُ الكمنجاتُ احتشادًا يليقُ بصهيلِ الناى الذى يمرحُ فى براحِ الأغنيةِ كحصانٍ أبيضَ يقطعُ المسافةَ بينَ الحرمينِ الشريفينِ ذهابًا وإيابًا دونَ أنْ تلمسَ سنابكُهُ الأرض ... ثمّ .... يبرقُ صوتُ أمِّ كُلثوم وهوَ يرتدى ملابسَ الإحرامِ ( أيضًا ) ويسبحُ بنا فى نهرٍ منْ نقاءٍ وبياض :
القلب يعشق كلّ جميلْ
وياما شُفتى جَمالْ يا عين
واللى صَدَق فى الحبِّ قليلْ
وإنْ دامْ يدومْ يومْ وإلاّ يُومينْ
واللى هَويتُه اليومْ .. دايمْ وصالُه دُومْ
لا يعاتب اللى يتوبْ، ولا فى طبعُه اللومْ
واحدْ مفيشْ غيرُهْ .. مَلَا الوجودْ نورُه
دعانى لبّيتُه .. لحدّ بابْ بيتُهْ
وامّا تجلّى لى .. بالدّمْعِ ناجيتُهْ
وبعدَ أنْ نعرِفَ الحبيبَ الذى يناجيهِ الشّاعرُ بالرّهبةِ والخشوعِ ودموعِ النّدمِ الطّاهرةِ النقيَّةِ، يبدأُ العمُّ بيرمُ فى سردِ نجواهُ ناصعةً بيضاءَ بلا تعقيدٍ أو تقعِير، ويرسلُها سهلةً عفويَّةً تتوزّعُ بينَ مختلفِ العقولِ والأفهامِ وكأنّها الهواءُ الذى نتنفَّسُهُ بلا فرقٍ بينَ عالِمٍ أو أستاذٍ فى الفِقْهِ وبينَ صبىّ أخطأَ طريقَهُ إلى التعليمِ واحترفَ العملَ اليدوى الشّاقّ فى مَجْهولٍ ما.
ونحنُ عندما نُحبُّ ونختلفُ ونهجرُ ونفارقُ، يكونُ العتابُ مُرًّا وقاسيًا، وقد يؤدى إلى القطيعةِ بلا رجعة، هذا الحبُّ الذى يكونُ بينَ مُتكافِئَيْنِ على الأرضِ يقومُ على الأخذِ والعطاءِ، بينما فى الحبِّ الأسمى بينَ الأرضِ والسماءِ يكونُ العطاءُ نازِلاً من الأعلى كما ينزلُ المطرُ على الأرضِ المُجْدبةِ، إنّهُ العطاءُ اللامحدودُ لا بالزّمانِ ولا المكانِ ولا بالقدرِ أو القيمة، العطاءُ المحفوفُ بالرّحمةِ والصّفحِ والمغفرَةِ وانتظارِ التوبةِ فى أيَّةِ لحظة .. انظُرْ إلى الشّاعرِ وهو يُجَسِّدُ عظَمَةَ الخضوعِ وشرفَ العبوديَّةِ للخالقِ الأعظم :
كُنت أبتعِد عنُّه، وكانْ يِناديني
ويقولْ : مِسِيرَكْ يومْ تِخضَعْ لِى وتْجِينى !!
طاوِعْنى يا عَبْدِى .. طاوعْنى أنا وحْدي
ما لَكْ حبيبْ غيرى .. قَبْلِى ولا بَعْدِي
أنا اللى أعطيتَكْ مِنْ غيرْ ما تِتْكَلِّمْ
وأنا اللى علِّمْتَكْ مِنْ غيرْ ما تِتْعَلِّمْ
واللى هَدَيتُه إليكْ ..
لو تِحْسِبُه بإيديكْ
تِشوفْ جَمايْلِى عليكْ ..
مِنْ كُلِّ شيءْ أَعْظَمْ
سلِّمْ لِنا تِسْلَمْ
كُنْت .. وكانْ .... لاحِظِ العلاقةَ بينَ الفعلينِ تجدِ الثانى معطوفًا على الأوّلِ مُمَثِّلاً ردَّ فعلٍ مُباشِرٍ لهُ مَقرونًا بِهِ، فالابتعادُ عنِ المَوْلَى عزَّ وجلَّ يكونُ بالسّهوِ أو التغافُلِ أو ارتكابِ المعاصى، أمّا النداءُ فيأتى مُباشِرًا منْ خلالِ الأوامرِ والنواهى القُرْآنيَّةِ، وغيرَ مُباشِرٍ مِنَ النَّفْسِ المؤمِنَةِ اللوَّامَةِ التى تختَنِقُ مِن ارتكابِ الذّنوبِ والآثامِ أو مُجَرّدِ السّهوِ والابتعاد .
وتَتَجَلَّى روْعَةُ التعبيرِ فى الشّطْرِ الثانى عندما يقولُ الشّاعرُ :
" .... مِسِيرَكْ يومْ تِخْضَعْ لِى وتْجِيْنِى "
ما أجملَ هذا الخضوعَ وأعظَمَه !! وما أربَحَ تلكَ الرَّجْعَةَ !! إنّها الأصداءُ تملأُ الأكوانَ من حولِكَ : ... هذهِ أرضى .. وهذهِ سمائى فأينَ تَفِرُّ لِتَهْرُبَ مِنِّى ؟ ولماذا تهرُبُ ؟ إنّكَ عَبْدى وحبيبى ما دُمْتَ مُؤْمِنًا مُسْتَغْفِرًا أوّابًا مُنِيْبًا .. كُلَّما أخطأْتَ وذكَرْتَنى فاستَغْفَرْتَنى وجَدتَنى أنا الغفور الرّحيم .. هل هُناكَ حبيبٌ آخرُ يغفِرُ لَكَ بهذِهِ السّرعَةِ ويُحِبُّكَ كلَّ هذا الحُبِّ ؟ إنَّكَ لو رُحتَ تُحصِى نِعَمِى وعطاياى وما أَسْدَيْتُهُ إليكَ بغيرِ طلبٍ مِنكَ، حتّى وأنتَ تُغْضِبُنى وتبتَعِدُ عنْ طريقى المستقيم، فسوفَ تقضى العُمرَ فى العَدِّ والإحصاءِ ولن تصلَ أبدًا إلى نهاية ! إننى أنا الحبيبُ الذى يُعطى ويرزقُ بغيرِ حسابٍ وبغيرِ طلب، وأنا الذى " علَّمَ الإنسانَ ما لمْ يعْلَمْ "، وأنا القائلُ فى مُحْكَمِ تنزيلى : (واللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( النّحل 78 ، أَبَعْدَ كلِّ هذهِ الآياتِ والدّلائلِ والعِبَرِ التى تملأُ نفسَكَ وتملأُ الكونَ مِنْ حولِكَ تبتعِدُ عنّى وتلتمسُ حبيبًا غيرى إنْ أعطاكَ مرّةً فلن يعطِيَكَ أخرى ؟!
كانَ السُّنباطى بارِعًا إلى أبعدِ حدّ وهوَ يقومُ بتلوينِ موقفِ العتابِ النّازلِ منَ السماءِ إلى الأرضِ بدءًا من : " أنا اللى أعطيتَكْ ........ "، ولولا أنّها حالةٌ نورانيّةٌ خالصةٌ ينحنى فيها العبدُ فى أشرفِ خضوعٍ أمامَ مولاهُ الأعلى لقلتُ: إنَّ السّنباطى يريدُ أنْ يباغتَنا ويلقيَنا فوقَ فوهَةِ بركان !! فبعدَ الرّقّةِ التى تقتربُ من الهمسِ فى " طاوعنى يا عبدى "، يكفَهِرُّ صوتُ أمِّ كُلثوم وترتفعُ وتيرتُهُ كطائرةٍ فى لحظةِ إقلاعٍ مفاجئ، وتصلُ إلى الذّروةِ عندَ " سلِّمْ لِنا تِسْلَم " وسطَ غليانٍ موسيقى أشعرُ مَعَهُ أنّ أمَّ كُلثوم كانت تُقاتلُ حتى تصلَ بسلامٍ إلى ميم " تِسْلَمْ " لتفلِتَ مِنْ كمائنِ تقلُّباتِ الصوتِ وخياناتِهِ فى مثلِ هذهِ الذُّرَا الشاهقة !
عندما يعودُ بنا العمُّ بيرم إلى الأرضِ، ليصفَ لنا مكّةَ المُكرَّمةَ التى ترتدى النورَ والبياضَ اللامثيلَ لهُ، يأتى الكمانُ فى صدارةِ المشهدِ، ويخطفُ الأضواءَ قليلاً فى حضورٍ لافتٍ فى بطولةٍ منفردةٍ ( صولو ) يكسرُ رتابةَ التكرارِ الموسيقى الذى يمثّلُ الجسرَ الرئيسى، أو العمودَ الفقرى للأغنيةِ من الاستهلالِ إلى الفواصلِ بينَ المقاطِعِ ( الكوبليهاتِ )، والتمهيدِ لها :
مَكَّة وِفِيها جبالِ النّورْ
طالَّة على البيتِ المَعْمورْ
دَخَلْنا بابَ السَّلامْ
غَمَرْ قلوبْنا السّلامْ
بعفوِ ربّ غفورْ
فُوقْنا حَمام الحِمَى ... عدَدْ نُجومِ السَّما
طايرْ علينا يْطوفْ ... ألوفْ تتابِعْ أُلُوفْ
طايرْ يِهَنِّى الضُّيُوفْ ... بالعَفْوِ والمَرْحَمَةْ
واللى نَظَمْ سِيرُهْ
واحِدْ مفيش غِيرُهْ
دعانى لَبّيتُهْ ..لِحَدِّ بابْ بِيتُهْ
وامَّا تَجَلَّى لى .. بالدَّمْعِ ناجِيتُهْ
كلماتٌ تشعُّ نورًا من داخِلِها ومن جوانبِها، الشّاعرُ يحْمِلُنا على أجْنِحَةِ السّحْرِ ونحنُ طاهرونَ مُتَعَطِّرونَ بملابِسِ الإحرام، يصحَبُنا معه ويرينا بِقاعَ النورِ جبالاً شامِخَةً، جبالاً ... ليستْ مِنْ صَخْرٍ ولا أحجارٍ أو تُراب، إنها من نورٍ سماوى أبدىّ لا ينطفئُ ولا يخفتُ ولو كرهَ الكافرون.
" دخلنا باب السلام ... غَمَرْ قلوبْنا السَّلامْ " ... الفعلُ وردُّ الفعلِ متعانقانِ متلازمان ..، " غَمَرْ قلوبْنا السّلامْ " .. صورةٌ تكتنِزُ كلّ معانى الطّمأنينةِ والأمان، إنّكَ الآنَ فى أحضانِ البيتِ العتيقِ فى حِمَى الرّحمن، القلوبُ سابحةٌ فى بحارٍ من الطّهْرِ والنقاءِ والبياض، إنّها مغمورةٌ بالعفوِ والمغفرةِ، وأفواجُ الحمامِ تزغْرِدُ بالبُشرى وتطوفُ فوقَ الحجيجِ وكأنّها تطوفُ مَعَهُم تذكّرُهم بِحمامَتَىْ الغارِ وبُطولَتِهما فى بدايةِ رحلةِ هجرةِ النبى عليهِ الصلاةُ والسَّلام، وكأنّ حمامَ الحِمَى هو الذّرّيةُ الصالحةُ من أحفادِ حمامَتَى الغارِ، يطوفُ فوقَ البقاعِ الطّاهرةِ حاملاً الذكرى والبشارةَ ومُسافِرًا فى الزّمن.
يظلُّ الشاعرُ على الأرضِ، وربّما أعادتْهُ أفواجُ الحمامِ إلى ذكرياتِ الهجرةِ المُباركة، فراحَ يقطعُ الطريقَ نفسَهُ من مكّةَ إلى المدينةِ ليُصلّى فى المسجِدِ النبوى ويكحّلَ عينيهِ برؤيةِ " الرّوضةِ الشّريفة " وعندما يراها .. يراها قد أشرقت مِنَ الجَنّةِ، ويتخطّى بنا حواجزَ الزّمنِ ويصعَدُ فى مدارجِ الأصفياءِ ليجالسَ الملائكةَ ويصافحَهم ويتلقّى منهم البُشرى الثانيةَ بالعفوِ والغفرانِ، وفى هَذهِ اللحظةِ تفصِحُ شِيَمُ الكرمِ عن نفسِها، فلا ينسى الشّاعِرُ الحاجُّ أحبابَهُ وأهلَهُ، فيرفعُ يديهِ وصوتَهُ بالدّعاءِ لهم أنْ تتحقَّقَ أمانيهم ويحجّوا إلى بيتِ اللهِ الحرامِ ليستمتعوا ويعودوا مغفورًا لهم :
جِينا على روضَةْ هالَّة من الجنّةْ
فيها الأحبّةْ تنول كلَّ اللى تِتْمَنَّى
فيها طربْ وسرورْ، وفيها نورْ على نورْ
وكاسْ محبّة يدورْ .. واللى شِرِبْ غنّى
وِمَلايْكةِ الرّحمن .. كانت لِنا نُدْمانْ
بالصَّفْحِ والغُفرانْ .. جايَّه تِبَشَّرْنا
يا رِيتْ حبايِبْنا ينولوا ما نلْنا
يا ربّ تِوْعِدهم، يا ربّ واقْبَلْنا
اللهَ اللهَ اللهَ اللهْ !
لا أمْلِكُ إلّا الارتعاشَ والارتجافَ والرّهبةَ والتشوُّقَ و... التصفيقَ الحاد.
إلى عَرَفاتِ الله
هذهِ هى آخرُ روائعِ أمير الشعراءِ الدينيّةِ الأربعِ التى غنّتها أمّ كلثوم، وهى فى رأيى، وكما أسلفتُ، تمثّلُ معَ " دعانى لَبّيتُه" أو " القلب يعشق " رأسَ هرم الغناءِ الدّينى لمناسبةِ الحجّ.
القصيدةُ فى الأصلِ عنوانُها " إلى عَرَفات "، كتَبَها أحمد شوقى أواخرَ عامِ 1909م، ونشرتها مجلّة " الهلال " فى عدد يناير -كانون الثانى- 1910م، وكانت " تهنئة للخِدِيو عبّاس بمناسبة حجّه " . وقد أحسنتْ أمُّ كُلثوم إلى الشّعرِ، وإلى شوقى، وإلى كلِّ ورثَةِ التراثِ الشعرى بانتقاءِ هذهِ الأبياتِ المُغنّاةِ التى حوّلت القصيدةَ من وجبةِ نفاقٍ باردةٍ، إلى دُرّةٍ مِنْ دُرَرِ الشعرِ المُغَنَّى بوجهٍ عامٍ، ووضعتْها على رأسِ قائمةِ أُغْنياتِ الحَجِّ بوجهٍ خاص !
كانَ شوقى مُقرّبًا للخِدِيو، ليسَ كشاعرِهِ أو أحدِ كبارِ موظّفى القصر، ولكن كصديقٍ وجليس، وحدثَ أنْ طلبَ الخِدِيو عبّاس حلمى من شوقى أنْ يعدَّ نفسَهُ للسفرِ معهُ لأداءِ فريضةِ الحجِّ، وبدأَ شوقى الرّحلةَ معهُ بالفعلِ، لكنّهُ غافلَهُ عند مدينةِ بنها وهربَ واختبأَ عندَ أحدِ أصدقائِهِ هناكَ، ولكى يدارى خجلَهُ وفعلَتَهُ ، كتبَ مطوّلةً من ثلاثةٍ وستّينَ بيتًا كوداعٍ للخِدِيو واعتذارٍ لهُ عمّا حدثَ، مُتعللاً بأنّهُ لا يقوَى على ركوبِ ظهورِ الجِمالِ ومُكابدةِ مشقّةِ الطريق، ونشرَها بمجلّة " الهلال " كتهنئةٍ للخِدِيو، لكنّها جاءتْ مُلَبَّدَةً بأبياتٍ كثيرةٍ ترفعُ الخِدِيو إلى مقامٍ لا يستحقُّهُ إيمانيًّا أو سياسيًّا، كذلكَ ينصرفُ شوقى إلى مدحِ السيّدةِ الفاضلةِ والدةِ الخِدِيو التى رافقتْهُ فى هذهِ الرّحلةِ وصبرتْ على ركوبِ ظُهورِ الجِمالِ فكانتْ أقدرَ من الشاعرِ وأقوى !
كذلكَ لم ينسَ شوقى أنْ يمدحَ السلطان محمد رشاد أو محمّد الخامس الخليفةَ وقتئذ، وبعدَ ذلكَ يعتذرُ الشاعرُ إلى اللهِ ويبتهلُ إليهِ، ثم يشكو إليهِ حالَ المسلمينَ كعادَتِهِ متوسّلاً برسولِهِ الكريم.
غنّتْ أمّ كُلثوم خمسةً وعشرينَ بيتًا منْ هذهِ القصيدةِ ( حذفت منها ثلاثةَ أبياتٍ فى بعضِ الحفلات ) و تصدّى السنباطى العملاقِ لتلحينِها، وغنّتها للمرةِ الأولى فى السادسِ من ديسمبر -كانون الأوّل- 1951م، وتبعتْها فى خمسِ حفلاتٍ أُخرى كانت آخرها فى الرابعِ من يوليو –تموز- 1957م، وقد أبدعتْ أمُّ كُلثوم أيّما إبداع فى غنائِها خصوصًا فى الحفلينِ الأوّلِ والأخيرِ، وكلّما استمعتُ إليها فى الحفلِ السادسِ الأخير، أشعرُ أننى أستمعُ إليها للمرّةِ الأولى؛ لكثرةِ ما تصرّفتْ وارتجلتْ وغيّرتْ فى بعضِ الكلماتِ غيرَ التغييراتِ الثلاثةِ التى حدثتْ منذُ البداية .
كانَ الخطابُ مُباشرًا فى الشطرِ الأوّلِ : " إلى عرفاتِ اللهِ يا ابنَ مُحمّدٍ "، والمقصودُ بهِ الخِدِيو عباس حلمى الذى هوَ ابن الخِدِيو محمد توفيق !، فتمَّ كشطُ " ابن محمّدٍ " وجَعْلُها " خيرَ زائرٍ " فخرجَ المعنى منْ سجنِ المفردِ الخاصِّ العَلَم " الخِدِيو " إلى براحِ العام غيرِ المعلومِ وهو خير زائرٍ كلّ حاجٍّ سيتّجِهُ لأداءِ الفريضةِ من أى مكانٍ فى العالمِ وإلى أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها.
التغييرُ أو التبديلُ الثانى جاءَ فى الشطرِ الأوّلِ من البيتِ الثالثِ عشر من النصِّ الأصلى، الثامنِ فى الغناء :" أرى الناسَ أصنافًا ومِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ .." فأصبحَ : " أرى الناسَ أفواجًا ..." وهوَ تعبيرٌ أدَقُّ من الأوّلِ وأعمق، وينهلُ من المُعْجَمِ القرآنى (ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فى دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا (، أمّا التغييرُ الثالثُ والأخيرُ فقد جاءَ فى البيتِ الثالثِ والخمسينَ من النصِّ الأصلى، السادس عشر فى الغناء، وفى الشطرِ الأوّلِ أيضًا : " إذا زُرْتَ يا مولاى قبرَ محمّدٍ "، أصبحَ : " إذا زُرْتَ بعدَ البيتِ قبرَ محمّدٍ " .
يدخلُ السنباطى إلى القصيدةِ (الأغنيةِ) وسطَ حراسةٍ مُشدَّدَةٍ من كتيبَةِ الدّفوفِ التى كانَ حضورُها طاغيًا ومؤثّرًا واستثنائيًّا خصوصًا فى الحفلِ الأوّلِ، هذا الحضورُ الذى سينسجُ السنباطى من أصدائِهِ، بعد أقلَّ مِنْ عامينِ، أى فى 1953م، المقدّمةَ الموسيقيّةَ لأغنية " يا رايحين للنبى الغالى " التى غنتها ليلى مراد ، وتوضعُ فى ترتيب أغنيات الحجّ على مقربة من هاتين الرائعتين الكلثوميّتين.
فى المرّةِ الأخيرةِ لغناء إلى عرفاتِ الله "، أشعرُ أنّ أمّ كُلثومَ كانت تغنى قصيدتَها هى، تجربتَها هى، إنها مُستمتعةٌ لأبعدِ حدّ، كلّ حرفٍ يخرجُ من بينِ شفَتَيْها كأنّهُ قطعةٌ من الماسِ ملفوفةٌ فى غِلَالةٍ من رحيقِ الضوءِ، الحروفُ تلمعُ وتنطلقُ فى الفضاءِ لتأخُذَ مواقِعَها فى مداراتِ الكواكب ! كانت أمُّ كُلثوم قد ألغتْ حفلَها الشهرى السابق ( يونيو 1957م، ختام الموسمِ الغنائى المعتادِ لها ) إذْ أصابَتْها نوبةُ بردٍ قاسيةٍ أثّرتْ على أُذنيْها وسبَّبَتْ لها آلامًا ودُوارًا، فاعتذرَتْ، وتأجّلَ الحفلُ إلى يوليو الذى صادفَ الاستعدادَ للسفرِ لأداءِ الفريضةِ، وبناءً على طلبِ الجمهورِ غنّتِ القصيدة، لكنّنى أراها تُغنّى بناءً على طلبِ روحِها، وأراها تُغنّى وكأنَّها تغنِّى لروحِها بغيرِ جمهورٍ أو موسيقى، وربّما خَشِيَتْ على نفسِها ألاّ تصلَ بالأداءِ مرّةً أخرى إلى هذهِ الحالةِ الاستثنائيّةِ فآثرتْ ألا تغنّيها بعدَ تلكَ الليلة :
إلى عَرَفَاتِ اللهِ يا‎ خَيْرَ زائِرٍ
عَلَيكَ سَلامُ اللهِ فى عَرَفاتِ‎
ويومَ تُوَلِّى وجْهَةَ البَيْتِ ناضِرًا
وَسِيمَ مجالى البِشْرِ‎ والقَسَمَاتِ‎
على كُلِّ أُفْقٍ‎ بالحِجاز ِملائِكٌ
تَزُفُّ تحايا اللهِ والبَرَكاتِ‎
لدى البابِ جِبريلُ الأمينُ بِراحِهِ ..
رَسَائِلُ‎ رَحْمانِيَّة ُالنَّفَحَاتِ‎
وفى الكَعْبَةِ الغَرَّاءِ رُكْنٌ مُرَحِّبٌ
بكَعْبَةِ قُصَّادٍ ورُكْنِ‎ عُفاةِ‎ ..
وزَمْزَمُ تجري‎ بَينَ عَيْنَيْكَ أعْيُنًا..
مِنَ الكَوْثرِ المعْسُولِ مُنفَجِراتِ
جاءَ التغييرُ فى البيتِ الأوّلِ موفَّقًا إلى أبعدِ مدى، وبما أنَّ " الحجّ عرفة " فقد أصابَ شوقى بتكرارِهِ كلمةَ " عرفات " فى البيتِ الأوّلِ، فرنينُ الكلمةِ فى أوّلِ البيتِ وآخرِهِ يأخذُنا مباشرةً إلى " عَرَفات "، وتظلُّ الصورةُ ثابتَةً فى الذّهنِ طوالَ القصيدةِ (الأغنية)، وتتحوّلُ القصيدةُ إلى نهرٍ من البياضِ بملابسِ الإحرامِ ، تُمارِسُ فيهِ المُفرداتُ والمعانى طقوسَ الطّوافِ والدّعاءِ والتلبية .
بعدَ هذا الاستهلالِ البديعِ ينصرِفُ شوقى إلى وصفِ المنظرِ العامِّ لحُجّاجِ بيتِ اللهِ الحرامِ، إنّهم الطاهرونَ الأنقياءِ الذينَ أتَوا من كلِّ فجٍّ عميقٍ من مشارِقِ الأرضِ ومغارِبِها، كُلُّهم متساوونَ فى ملابسِ الإحْرامِ وفى ممارسةِ الشعائرِ، لا تعرفُ غنيًّا من فقيرٍ ولا أفريقيًّا من آسيوى فالجميعُ على أرضيَّةٍ واحدةٍ وكأننا فى يومِ الموقفِ العظيمِ، يومِ القيامة :
لكَ الدِّينُ يا ربَّ الحَجِيجِ جَمَعْتَهُمْ ...
لبيتٍ طَهُورِ‎ السَّاحِ والشُّرُفاتِ‎
أرى النَّاسَ‎ أفْوَاجًا ومِنْ كُلِّ بُقْعَةٍ
إليكَ انْتَهَوْا مِنْ غُرْبَةٍ وشَتَاتِ‎
تساوَوْا فلا الأنْسابُ فيها تَفاوُت ٌ..
لديكَ ولا‎ الأقْدارُ مُخْتَلَفاتِ
ونأتى إلى الموقفِ الذاتى للشاعرِ، موقف الاعتذارِ الذى ينحنى فيهِ شوقى أمامَ اللهِ عزَّ وجلَّ مُلْتمسًا العفوَ من الغفورِ الرّحيمِ إذْ هربَ وتقاعسَ عن أداءِ الفريضةِ مع الخِدِيو، فيدعو اللهَ أنْ يتجاوزَ عن هذهِ الهفوةِ، وأنْ يمحوَ كلَّ الصفحاتِ السوداءِ فى كتابِه، وهذا المقطعُ من أصدقِ ما جاءَ فى شعرِ شوقى ( وليسَ فى قصيدتِنا هذه )، ولذلكَ تعاملَ معَهُ السنباطى بحذرٍ ورقّةٍ وملأهُ بالموسيقى المُبللةِ بالدموعِ، وأعطى صوتَ أمِّ كُلثوم البطولةَ المُطلقةَ فيهِ إلى الدرجةِ التى تُشْعرُنا أنَّ أمّ كُلثوم كما أسلفتُ تغنّى، تتحدّثُ عن تجربتِها هى، وهو المقطعُ الذى تصرّفتْ فيهِ من تلقاءِ مشاعرِها، وغيّرتْ فى بعضِ الكلماتِ، فقالتْ : "الغفَوَات " بدلاً من " الهفوات " ( مع العودةِ إلى " الهفواتِ " فى التكرار )، كذلكَ جاءتْ ب " وتعْلَمُ "بدلاً من "وتشهدُ " ( وعادت أيضًا إلى " وتشهدُ "، غيرَ أنّ صوتَها قد وصلَ إلى درجةِ الذّوبانِ التّامِّ ليتحوّلَ إلى قطراتٍ من الدّموعِ السّاخنةِ تتسابِقُ فوقَ فضاءٍ من الحريرِ الأبيض :
ويا‎ ربِّ هلْ تُغْنى عنِ العَبْدِ حَجَّةٌ ...
وفى العُمْرِ ما فيهِ مِنَ‎ الهَفَوَاتِ‎
وتَشْهَدُ ما آذَيْتُ‎ نَفْسًا وَلَمْ أَضِرْ...
ولمْ أَبْغِ فى جَهْرِى ولا خَطَرَاتي‎
ولا حمَلَتْ نَفْسٌ هَوًى لبِلادِها ...
كَنَفْسِى فى فِعْلي‎ وفى نَفَثاتي‎
وقدَّمْتُ‎ أعذارى، وَذُلِّى، وخَشْيَتِى ..
. وجِئْتُ بِضَعْفِى شافِعًا وَشَكاتي‎
وأنْتَ وَلىّ العَفْوِ فامْحُ‎ بِناصِع ٍ
مِنَ الصَّفْحِ ما سَوَّدْتُ مِنْ صَفَحَاتِ‎
وَمَنْ تَضْحَكِ الدُّنْيا إلَيْهِ فَيَغْتَرِرْ ..
يَمُتْ كَقَتِيْلِ الغِيدِ‎ بالبَسَمَاتِ‎
تنْبَعِثُ الحرارةُ فى الموسيقى، وتلتهبُ الدفوفُ والكمنجاتُ تمهيدًا للإقلاعِ إلى ذروةٍ أخرى فى القصيدةِ (الأغنيةِ)، ونُدْرِكُ على الفورِ أنّ انتقالاً ما قادمٌ لا محالةَ، وبالفعلِ هو انتقالٌ على الأرضِ، وفى صُلْبِ النَّصِّ ( كانتْ أمُّ كُلثومَ قد أسقطت الأبياتَ الثلاثةَ التى تسبقُ البيتَ الأخيرَ فى المقطعِ التالى فى عدّةِ حفلاتٍ، منها الحفل الأخير ):
إذا زُرْتَ‎ بَعْدَ البَيْتِ قَبْرَ محمدٍ ...
وقَبَّلْتَ مَثْوَى الأَعْظُمِ‎ العَطِرَاتِ‎
وفَاضَتْ مِنَ‎ الدَّمْعِ العُيُونُ مَهابَةً ...
لأَحمَدَ بينَ السِّتْرِ‎ والحُجُرَاتِ‎
وأشْرَقَ نُورٌ تحتَ‎ كُلِّ ثَنِيَّةٍ ...
وضَاعَ أَرِيْجٌ تحت كُلِّ‎ حَصَاةِ‎
فَقُلْ لِرَسُولِ اللهِ يا‎ خَيْرَ مُرْسَل ٍ ...
أَبُثُّكَ ما تَدْرِى مِنَ الحَسَرَاتِ‎
شُعُوبُكَ فى شَرْقِ البِلادِ وَغَرْبِهَا...
كأصْحابِ كَهْفٍ فى عَمِيقِ‎ سُباتِ‎
بأَيْمانِهِم نُورانِ‎ ذِكْرٌ وَسُنَّة ٌ....
فما بالُهُم فى حَالِكِ الظُّلُماتِ‎ ؟؟
وذَلِكَ ماضى مَجْدِهم وفَخارِهمْ
فما ضَرَّهُمْ لو يَعْمَلُونَ لآتى ؟
وهذا زَمانٌ أرْضُهُ وسَماؤُهُ
مجالٌ لِمِقْدامٍ كبيرِ حَيَاةِ
مَشَى فيهِ قومٌ فى السّماءِ وأَنْشَئُوا
بَوَارِجَ فى الأبْراجِ مُمْتَنِعاتِ
وقُلْ رَبِّى وَفِّقْ للعَظائِمِ‎ أُمَّتى
وزَيِّنْ لَها الأفْعَالَ والعَزَمَاتِ
كعادَتِهِ، يصبغُ شوقى نهاياتِ قصائدِهِ الدّينية بألوانِ الأسى والحسرةِ، ويتوسَّلُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ برسولِهِ الكريمِ أنْ يوفّقَ الأمّةَ لتفيقَ من نومِها العميقِ، وأنْ تخرجَ من الظُّلماتِ التى تتخبّطُ فيها بالرّغمِ من كونِها تحملُ فى أيمانِها أطهرَ نورينِ: القُرْآنِ والسنّةِ النبويّةِ الشريفة، وقد كانَ اللهُ رحيمًا بشوقى وبكلِّ هؤلاءِ العظماءِ الذينَ لو رأوا ما آلتْ إليهِ أحوالُ أمّتنا اليومَ لماتوا حسرةً وكمدًا.
ندعو اللهَ أنْ يوفّقنا للعظائمِ، وأنْ يحقّقَ أمنيةَ كلِّ مُشتاقٍ لأداءِ فريضةِ الحجِّ وأنْ يُيَسِّرَ لهُ سَبِيلَها، ويتقبَّلَها منه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.