منذ بدء العام وحتى نهايته لا يشغلهم إلا البحث عن قوت يومهم وتحصيل أموال ولو بسيطة تعينهم على معيشتهم، فلا يأبهون بعام مضى ولا ينتظرون الجديد، المستقبل بالنسبة لهم خارج الحسبان أو ينحسر في بضع جنيهات أو رغبة في زواج الأبناء وتأدية الرسالة الأبوية على أكمل وجه. 2016 كان قاسيًا مليئًا بالصعاب والأزمات تلاحق الكثيرين مهما اختلفت الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، فإن كان سوط الظروف الاقتصادية الذي لا يُشد إلا على ظهور هذه الفئات "المطحونة"، قادرا على قتلهم ب«البطيء»، لكنه عندما يسلط عليهم يعلن فشله التام، أمام مبدأ «على قد فلوسنا أدينا عايشين". بائع إطارات السيارات تجده دائمًا بملابسه الرثة المائل لونها للاسوداد ويديه المتشققة الدالة على طول شقاء ومعاناة صاحبها، يتجول في شوارع محافظة الجيزة من الهرم والطالبية إلى صفط اللبن وغيرهم من المناطق، يتلفت حوله وهو يصطحب دراجته البالية من كثرة التجوال، ليبحث عن إطارات سيارات قديمة أو "نصف عمر" لبيعها لأصحاب العربات "الكارو" فهذا هو مصدر رزقه الوحيد والذي يدر عليه يوميًا من 15 إلى 20 جنيهًا. إنه نموذج حي للكفاح تمثل في "أحمد" الذي يعمل بمهنة بيع إطارات السيارات القديمة منذ أكثر من 50 عامًا حينما كان طفلًا يصطحبه والده معه إلى الطرقات والقرى المختلفة لنفس الهدف الذي يمشط من خلاله أحمد الجيزة شرقًا وغربًا الآن، قائلا عن عمله، "أنا بشتغل في بيع الكاوتش المستعمل من 50 سنة ومن قبل ما آجي القاهرة جوزت بيها ولادي وعلمت بنتي لحد ما خدت الدبلوم، معنديش مهنة غيرها، دخلها قليل بس أدينا راضيين وبنقول الحمد لله على كل حال وأهي ماشية". أحمد رغم ما يمر به من ظروف صعبة في ظل أسعار الطعام التي أصبحت في متناول "المستريحين فقط"، تجد الابتسامة لا تفارق شفتيه يردد عبارات "رضا وأهو الحال ماشي" دائمًا على لسانه، أمنياته للعام الجديد بسيطة مثله فهو لا يريد إلا "عريس كويس" لابنته ليطمئن عليها قبل أن يرحل عن الدنيا. محمد عامل نظافة نقي القلب يضع طعام إفطاره بجانب جوال يحمل به القمامة التي جمعها من هذه المنطقة أو تلك، يبدأ في جمع القمامة من الأرصفة وينتظر العربة التي تأتي لتحملها بعيدًا ويتفرغ هو لطعامه الشهي رغم كل شيء!، تشققت يديه وبرزت تجاعيد وعظام وجهه فيبدو وكأنه مُتعب دائمًا أو به مرض ما بالرغم من العافية التي أعطاه إياها خالقه لتعينه على هذه المهنة الشاقة والمُجهدة للنفس قبل البدن. يعمل "محمد" بجمع القمامة منذ 20 عامًا فكل يوم يأخذ القطار المتجه من العياط إلى منطقة الهرم، ليبدأ يوم عمله في السابعة وينتهي منه بحلول الواحدة ظهرًا ليأتي دور قطار العودة، "أنا بقالي 20 سنة وكل يوم على كدة سفر بالقطر مرتين في اليوم والمواصلات لوحدها بتدخل في 8 جنيه لأني ساكن بعيد عن محطة القطر، قضيت نص عمري في المواصلات لكن معنديش بديل ليها". يعيش محمد هو وزوجته وثلاثة أبناء جميعهم بالمراحل التعليمية بحجرتين وطرقة صغيرة ورثها عن والده لا يملك إلا مهنة تنظيف الشوارع، يصر على تعليم أولاده مهما كلفه الأمر فهم، على حد قوله، يصرفون الكثير من الأموال في الدروس الخصوصية والمدرسة، "ولادي دروسهم بتدخل في 50 جنيه هما التلاتة"، يقول محمد وقد تغيرت ملامح وجهه وباغتته الظروف المادية فجأة فيقول "أنا مرتبي مبيكفيش وكل يوم الحاجة بتغلى أكتر أنا بييجي عليا وقت مبيبقاش فيه فلوس خالص وبنضطر نطبخ مع اللحمة مرة واحدة في الأسبوع". «ستوتة» بائعة الخبز سيدة ريفية جاءت من محافظة الفيوم إلى القاهرة وهي في عمر الشباب بصحبة زوجها، وبالرغم من طول السنوات التي قضتها في كنف الحياة المدنية إلا أنها مازالت تحتفظ بالطابع الريفي الهادئ والبسيط فتقابل الزبائن ببشاشة ومرح. تعول أسرة تتكون من ست فتيات، زوجت منهن ثلاث وتبقى ثلاث تحاول جاهدة أن توفر لهن حياة كريمة بعد وفاة زوجها منذ 20 عامًا لذلك بحثت عن مصدر رزقها في بيع الخبز، "أنا بقالي 20 سنة ببيع عيش ربيت بناتي من العيش ده، بيدخلي فلوس على القد وأدينا عايشين، بس من ساعة ما الخضار والفراخ غليو بقينا نقضيها شعبي مبقناش ناكل لحمة وفراخ ممكن نقعد أسبوعين مناكُلش اللحمة". حياتها تتلخص في "قفص" الخبز وجلسات التندر مع السيدات قاطني المنطقة التي تعمل بها، ولا تحلم إلا بلقمة غداء لها ولبناتها وأن تنخفض الأسعار مثلما كانت لتتمكن من شراء دجاجة. الطفل «إمام» بائع الحلوى هزيل الجسد، ضعيف البنيان، إمام الذي لا يتعدى عمره ال16 عامًا، جعله القدر المسئول الأول والأخير عن أسرة تتكون من خمسة أفراد، تركها في صعيد البلاد وجاء إلى القاهرة لجلب الرزق وإرساله كاملًا للعائلة التي تنتظر، "أنا ببيع الحلويات بقالي أكتر من سنتين واللي بيطلعلي ببعته لأبويا وإخواتي في البلد يصرفوا منه أنا كبير إخواتي وأبويا بعد ما خرج من السجن ملقاش شغلانة تقبله". يعيش إمام مع أبناء عمه في مسكن صغير بالجيزة منذ سنوات عدة، ترك مدرسته وهو في الصف الرابع الابتدائي ليخرج إلى الشارع الذي يحاول جاهدًا أن يتأقلم معه لكنه عادةً ما يفشل في ذلك "أنا من ساعة ما سبت المدرسة وأنا في الشارع شوية أبيع حلويات وشوية أشتغل في محل في البحر الأحمر، أنا مبقتش عايز أرجع التعليم خلاص كبرت بس نفسي أشتغل شغلانة بعيدة عن بهدلة ومرمطة الشارع، أي شغلانة محترمة"، هذه كانت أمنية إمام الوحيدة التي يتطلع إلى تحقيقها بالعام الجديد. «ناجح» خفير عقار بفيصل جاء من محافظة أسيوط بصعيد مصر إلى القاهرة منذ أكثر من 20 عامًا بعد أن ضاقت الحياة به هناك وضاق بها، فلم يجد إلا مهنة حراسة أحد عقارات منطقة فيصل ليعمل بها، فانتقل من عقار لآخر حتى استقر به الحال بآخرهم فبقي به، منذ 11 عامًا وحتى اليوم لم يزد راتبه عن 400 جنيه فترتفع الأسعار أحيانًا وتهبط أحيانا أخرى والراتب كما هو. أسرته تتكون من زوجة وثلاث فتيات اضطرته الظروف المادية أن يخرج الكبرى من طور التعليم لتعاون والدتها في شئون المنزل وطلبات السكان، وكأن التعليم هو الآخر احتكرته الطبقة العليا دون غيرها!، "البنات الاتنين في التعليم لقتهم بقوا كل بنت تطلب خمسين في ستين جنيه دروس ومجموعات فاضطريت وأقعدت الكبيرة من التعليم خاصة لما لقيتها موافقة على ده، لكن التانية مخها نضيف وأنا معاها للآخر"، كذلك الابنة الصغرى نوى ألا تكمل دراستها التي لم تبدأ من الأساس "البنت الصغيرة طلعتها من الحضانة لما سعرها زاد من 150 ل250 جنيه". يؤكد "ناجح" أن زوجته الريفية محدودة الخبرات بالحياة لم تقصر هي الأخرى في مهامها فهي تعمل في تنظيف العقار وتوصيل مستلزمات للسكان لتحصيل بعض أموال تساهم في اللحاق بركب البقاء قيد الحياة.