حتى وقت قريب، كان لأستاذ الجامعة، والطبيب، والقاضى، والضابط، والدبلوماسى، وجاهتهم الاجتماعية، كانوا مثار حسد الحاسدين وغبطة الغابطين، ولكن الزمان دار دورته، فاختلت القواعد، واهتزت الثوابت، وانقلبت المعايير، وسقطت الأقنعة، وانهارت الضمائر، وتسلل إلى تلك الوظائف المرموقة، في غفلة من الزمن، نفرُ لم يقدروا رسالتها حق قدرها، فصار بعض الكبار صغارا، احترفوا صغائر الأمور، مات الحياء عندهم، لم يكفهم ما يتكسبونه من الحلال على كثرته، فمدوا أيديهم إلى الحرام، ينهلون منه دون وعى، يكتنزون الثروات، لا يملأ عيونهم إلا التراب، ينتهجون نهج اللصوص، يتخفون عن الأعين، وهم كانوا ملء الأسماع والأبصار، ليقترفوا أحط الجرائم، وأحقر الفضائح، فهذا قاض يتشح بحصانته، فيترك منصة القضاء العظيم، وينخرط مع تجار المخدرات، ينقل لهم بضاعتهم المسمومة، مقابل جنيهات معدودة، وذاك قاض آخر، تضبطه الأجهزة الأمنية متلبسا بتلقى رشوة مالية كبيرة لإصدار حكم بتبرئة تاجر مخدرات، حانثا بالقسم الذي أداه قبل تولى منصبه الرفيع الذي يتطلع إليه كل من يدرسون القانون، ولكن لا يصل إليه إلا أصحاب الحظوة وأسياد القوم، كما كان ينعتهم وزير مطرود، وهذا ضابط يتخلى عن دوره في حماية البلاد والعباد، وينقلب على عقبيه، ويتجسد دور الشيطان في أسوأ صوره، فينقل المخدرات أو السلاح، أويبيعهما، مستترا في نفوذه الآثم، وعلاقاته المتشعبة، وهذا دبلوماسى يُهرّب آثار بلده إلى الخارج، نظير عمولة معتبرة، أما الطامة الكبرى، والكارثة الحقيقية فوقعت أحداثها الأسبوع الماضى، عندما ضبطت هيئة الرقابة الإدارية شبكة دولية متخصصة في "توصيل ونقل" الأعضاء البشرية من الفقراء إلى الأثرياء العرب، نظير مبالغ مالية كبيرة، الشبكة تضم في عضويتها أساتذة بكليات الطب، وأطباء كبارا، حنثوا أيضا بقسم "أبقراط"، وداسوا رسالتهم السامية في تطبيب المرضى، واستبدلوها بسرقة أعضائهم وبيعها لمن يدفع بالعملة الصعبة، في إعادة لسيناريو فيلم "الحقونا"، للفنان الراحل "نور الشريف"، الذي تم طرحه بدور العرض السينمائى قبل 27 عاما، وتنبأ بتفاقم فوضى سرقة الأعضاء البشرية والاتجار بها، هذه الوقائع المؤلمة، مجرد غيض من فيض، وإذا وضعت ضمن وقائع أخرى مشابهة، أبطالها من أصحاب الحصانة والحظوة والنفوذ، سوف نجد أن الموضوع جدُّ خطير، وبالبحث والنقاش جدير، ويتطلب وقفة جادة وحاسمة، لا تقبل تحايلا أو التفافا أو مواراة، أو تجميلا للقبيح، الدولة التي لم تخش غضبا شعبيا من تحرير سعر الصرف، ورفع الأسعار بصورة جنونية،، يجب أن تكون أشد بطشا مع من يحنثون بالأيمان، ويتحالفون مع الشيطان بحثا عن "كسب حرام"، لا يحتاجونه، الحصانة التي تحظى بها فئات معينة في المجتمع، يجب أن تكون محل نظر، إذ تكاثر ضعاف النفوس الذين لا تمتلئ خزائنهم مهما تربحوا، كثير من هؤلاء.. تمكنوا تحت ستار "الحصانة" المتهتك، والنفوذ الغاشم، والعلاقات العامة الواسعة، و"البرستيج الوهمى"،من أن يهربوا آثار مصر إلى الخارج، وأن ينقلوا السلاح والمخدرات وكل ما هو محظور، وأن يتاجروا في البشر، في نفس الوقت الذي يتصدرون فيه الصفوف الأولى من المجتمع، التاريخ والجغرافيا يؤكدان أن بعضا من المحظوظين ب"الحصانة"، يعيثون في الأرض فسادا، يخترقون القانون، كما أن نفرا منهم ارتضوا أن يكونوا "موصلاتية"، يفعلون كل ما تحرضهم شياطينهم عليه، تحت شعارات عديدة، مثل: "الورق ورقنا.. والدفاتر دفاترنا"، و"إنت متعرفش أنا مين، وابن مين.. وقوم اقف وانت بتكلمنى"، "الباشا المواصلاتى".. ظاهرة بغيضة، وطراز كريه من الفساد، لا بد من حلول فعلية لتطهير المجتمع من هذه النماذج الشاذة، العقاب الرادع لا يكفى، الحل الحقيقى يكمن في منع هذه الفئة من التسلل إلى المناصب الرفيعة، لا بد من إجراء اختبارات نفسية صارمة لا تعرف التحايل واللف والدوران، تختار الأصلح، وتستبعد من لا يصلح، يجب الانتصار لقيم الحق والصدق، ودهس شعارات: «نحن الأسياد، ومن سوانا العبيد» بالأحذية، فأية أزمة قابلة للحل، إذا صدقت النوايا، وإذا تطهر المجتمع من خطاياه التاريخية، وأعرافه الكاذبة، حتى تنتهى إلى الأبد..ظاهرة "الباشا الموصلاتى"..