منذ أواخر فبراير من هذا العام؛ اعتنق المصريون عقيدة الإضراب عن العمل للضغط على الحكومة من أجل تحقيق ما يريدون من مكاسب، فأضرب عن العمل العديد من الفئات من العاملين في مصر، أضرب عمال النقل العام، والمراقبون الجويون في مصر للطيران، وعمال مصانع الغزل والنسيج، وموظفو الضرائب والشهر العقاري، والمعلمون وأساتذة الجامعات، وعمال مصانع العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر والمناطق الصناعية الأخرى، ثم هذه الأيام أضرب أمناء الشرطة لعلمهم بأهمية دورهم في حفظ الأمن؛ للضغط على وزارة الداخلية لتحقيق مطالبهم، وهذه الأيام؛ اختلف المحامون مع القضاة فأغلق المحامون المحاكم وأوقف القضاة العمل فيها. إن إضراب القضاة عن العمل يعني أن من حق أطباء وأطقم تمريض الطوارئ في مستشفيات مصر أن يضربوا هم الآخرون، فليس أهم من دورهم في علاج الحالات الحرجة، فإن أضربوا فسيموت ناس كثيرون، ولكن أطباء الطوارئ؛ ومن منطلق شعورهم بالمسؤولية؛ لا يمكن أن يقترفوا مثل هذا الإثم، فتُعلَّق دماء الخلق في رقابهم، ويصبحوا ساعتها شياطين العذاب لا ملائكة الرحمة، ولن يرحمهم أحد أو يعذرهم, كما لن يعذر أحد أو يرحم القضاة الذين أوقفوا العمل في (محاكمهم) بسبب خلاف بينهم وبين المحامين. ومهما بلغت حدة الخلاف بين القضاة والمحامين؛ ومهما بلغت شرعية مطالب كلا الفريقين؛ فلا يصح أبدا أن يمتنع اثنا عشر ألف قاض ورجل نيابة في مصر عن العمل في قضاء حاجات الناس، لخلافهم مع ما يقترب من النصف مليون محام، لأن مهنة القضاء التي يَشرُف كلا الفريقين بالانتساب إليها هي مهنة مهمة ومقدسة، كما أي مهنة، وليس من المقبول ولا من المعقول أن يستغل أي من الفريقين حاجة الناس إليه؛ فيضرب عن العمل ليحصل على مكسب؛ سواء كان هذا المكسب ماديا أو معنويا. والقضاة أصلا لهم قبل الثورة من المميزات والحصانة ما جعلهم دوما فوق البشر العاديين في التعامل اليومي في الشارع والمحاكم والمحليات وأقسام الشرطة، في الحِل والترحال، في أحوال المفاضلة والتخصيص والبيع والشراء.. معالي الباشا المستشار كان مفضلا دائما، فلما قامت الثورة ومرت تسعة أشهر؛ خرج علينا المستشار رئيس نادي القضاة ليعصر يد البلاد التي تؤلمها ! فعاير الشعب بما ليس له فيه يد ولا باع، عايره بانهيار كل مؤسسات الحكم بعد الثورة إلا الجيش والقضاء، وأوقف العمل في كل محاكم مصر إلى أجل غير مسمى؛ أي إلى أن يتحقق ما يطلب القضاة. قديما قيل إن ما أخذ بسيف الحياء فهو سُحْت، أي إن ما يحصل عليه المرء مستغلا حياء صاحبه؛ هو مال حرام، فما الذي يمكن أن يقال عما يُحصَل عليه بتهديد أمة كاملة وشعباً بأسره ؟ والآن أيها القضاة المحترمون المهمون.. هل نسمع قريبا عن إضراب الجيش (فتبقى كِمْلِت) ؟ هل إن اقتدى العاملون في المجالات الأخرى الذين لم يضربوا بعد بالسادة القضاة، فلن يؤثروا على سير الأمور في البلاد لأنهم ليسوا في أهمية القضاة ؟ ألن نعاني أشد المعاناة وأقساها إن أضرب عمال النظافة - مثلا - عن العمل ؟ ألن تنقلب حياتنا جحيما من القذارة والوساخة والنَتَن إن أقدم هؤلاء على الإضراب اقتداء بالقضاة ؟ إن كل وظيفة شريفة في كل بلاد الدنيا هي وظيفة مهمة، ولا يعني أن القضاة قضاة أن يفعلوا مايريدون فيضربوا لأنهم يعتبرون وظيفتهم الأخطر والأهم في الحالة الراهنة.. واسلمي يا مصر