والدتى مؤمنة ومتسامحة ومتفائلة وقليلة الكلام وتعشق الورد.. وأسرتى تحب السلام النفسى ترفع دائما شعار «الرضا خير من الزعل» مجلة «The Middle East» اختارت «فيروز» ضمن الشخصيات العربية الأكثر تأثيرا قبل أن تقرأ مثلى مثل أي مواطن عربي.. تساءلت أين ذهبت فيروز في السنوات الأخيرة، هل آثرت الغياب في خضم الغوغائية التي نعيشها، أم كبرت وصارت عزلتها رفيقة الهِرم، فضلت الحضور بصوتها والعزلة بجسدها عن واقعنا المرير، أو أنها أرادت لنا الاحتفاظ بصورة الفيروز فيها فقط.. ولم أجد إجابة ترضى فضولى غير البحث في تفاصيلها وأقاصيص حكاياتها التي زادتنى لوعة. مثلى مثل أي مواطن عربي.. حلمت برؤيتها مرارًا، تتبعت أخبارها التي يئست معها من أن تتخلى عن عزلتها لتطل من جديد، فارتضيت بما قسم لى الواقع، وآثرت الانغماس في تاريخها الغنائى وحكايات وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة. كل هذا قبل أن يُلقى اسم ريما الرحبانى على طاولة حوار دار بينى وأحد أصدقائي، تلك التي غنت لها يومًا "ريما ريما الحندئة.. شعرك أسود ومنقى"، فكل ما كنت أعرفه عن عائلة فيروز أنها تضم زياد (الابن)، وعاصى (الزوج)، ومنصور (الصهر). رحلة البحث عن "ريما" طويلة بعض الشيء كانت، خلالها اكتشفت أنها مخرجة وكاتبة، وتعمل على إدارة وتوثيق أعمال فيروز، وبالصدفة عثرت على حسابها الشخصى على موقع "فيس بوك". رسالة –لم أكن أتوقع أن يتم الرد عليها- كانت الخطوة الأولى للتواصل مع "ريما"، فقراءاتى جميعها تؤكد أن فيروز وعائلة الرحبانى يفضلون الابتعاد عن الأضواء ويرفضون الأحاديث الصحفية، لكن القدر كان له رأى آخر، فما هي إلا أيام قليلة لأفاجأ -بعد مرورها ثقيلة- برسالة تطلب فيها "ريما" البريد الإلكترونى لنتواصل عليه.. وكان الحوار التالى: كونك بنت فيروز وعاصى الرحباني.. هل يشعرك ذلك بالسعادة ؟ بالطبع لا.. لا يوجد في هذا سعادة على الإطلاق، وإنما جلب لى الحسد والأعداء، فحياتنا كانت درامية ولم تكن مرفهة كما يتصور الناس. هل علاقتك مع فيروز علاقة الابنة بالأم أم أنها صديقة لك؟ نعم.. علاقتنا قوية جدًا، فرغم أنها إنسانة قليلة الكلام في الأساس ولا تحب كثرة الحكي، فإنها تتحدث معى وترتاح للحديث، كما لو أنها تتحدث إلى نفسها.. ولكنها في نفس الوقت لا تستطيع التعبير عما يخالج صدرها. يقال إنك صعبة ومتجهمة طيلة الوقت.. ما حقيقة هذا الأمر؟ من يعرفنى وعاشرنى على طبيعتى يعلم أنى أضحك طيلة الوقت، لكننى في العمل جدية جدًا، لأنه من الطبيعى كشخصية مسئولة عن عمل لابد أن أحتفظ بقوة شخصيتي، ولا أستطيع أن أكون "رايقة" وأنا أعمل.. يمكن أن تقولى إنى ديكتاتورية في العمل، فلا يصح أن تكون شخصا مسئولا و"مايعا" بالوقت نفسه. ماذا عن والدتك ؟ هي أيضًا جدية بالعمل.. لكنها ليست عصبية مثلي.. على العكس هادئة طيلة الوقت وقليلة الكلام. نستطيع أن نقول إنك لست دبلوماسية ؟ لا أطيق الدبلوماسية، لا أستطيع أن أضحك على نفسى وأبتسم في وجه شخص وأنا منزعجة من داخلي، ولا أستطيع ارتداء الوجه المساير للواقع، ولست مضطرة لفعل ذلك. هل تمارسين ديكتاتوريتك في العمل على "فيروز" ؟ لا ليست ديكتاتورية عليها، وإنما نتشاور في الأمر ولأنى ابنتها أعرف جيدًا ما تحبه وتريده دون أن تحكيه، خاصة أننا نحمل ذوقا مشتركا.. وهى من الشخصيات التي تحب ما أفعل ويعجبها، وإذا لم تقتنع بأى فكرة أقترحها لا تفعلها، وتفعل ما تريد فقط. ما أكثر الخصال التي تكرهينها في شخصية فيروز ؟ التفاؤل.. لأنى عادة متشائمة على عكسها تمامًا، لا يستطيع إنسان عاش كل الظروف التي مررت بها أن يتفاءل، وبماذا أتفاءل من الأساس. هل يمكن القول إن إيمان فيروز الكبير سر تفاؤلها المستمر؟ أكيد.. هي مؤمنة جدًا ومتفائلة طيلة الوقت، وتثق أن كل الأمور السيئة ستُحل يومًا ما، وأن الخير في النهاية لابد أن ينتصر، فما زالت تحمل صورة الوطن التي رسمتها في أغانيها، ولا تعلم أن الخير لا ينتصر دائمًا، خاصة في هذا الزمن. هل تحمل كل هذا القدر من السلام النفسى ؟ نعم.. ولكن ليست فيروز وحدها بل منزلنا كله يحمل نفس السلام، حتى في العمل كانت تعمل مع عاصى دون أن تنتظر شيئًا من أحد، تعمل فقط لأنها تحب ما تعمل. لكن لماذا تبدو فيروز دائما حزينة ؟ الحزن جزء من شخصية فيروز. ما هي نصيحة فيروز التي تعجزين عن نسيانها ؟ تقول دائمًا "الرضا أحلى من الزعل". إدارتك لأعمال فيروز جلبت لكِ ثروة أم لا ؟ على العكس، لا اهتم بالمال من الأساس، ولا أعمل بإدارة وتوثيق أعمال فيروز على أنها مهنة أو وظيفة، وإنما لأنى مضطرة على الحفاظ على هذا الإرث العائلي، ولا يوجد من ينوب عنى في مثل هذه المهمة. هل كنت مدللة في المنزل ؟ لا أبدا.. لم أعايش أيام الدلال إطلاقًا، فلم أكن أرى أهلي بالبيت كثيرًا من العمل وانشغالهم الدائم بالبروفات والسفر والحفلات، وكانت تجالسنا مربية.. وبصراحة كنت أنا وأختى في غاية سعادتنا عندما يكون المنزل فارغًا لنحوله إلى مسرح. كنت أقرب أخواتك إلى والديك ؟ أي نعم.. من صغرى يحبونى كثيرًا على صراحتي، كانوا إذا أحبوا معرفة أي شيء يدور بالمنزل يسألونى أنا، لأنى كنت ومازلت صريحة جدًا لا أحب الكذب، فإذا ما فعلت أمرا أقوله دون الخوف من عقابهم لى. كما أنى تحملت المسئولية منذ صغري، فعندما كان عندى 12 عاما، كان يعطينى والدى ألف ليرة ويقول لى "دبرى البيت"، فكنت مدبرته بالفعل. من فيكم (أنت وليال) يشبه فيروز أكثر ؟ ليال كانت أكثر شبهًا في الشكل والطباع بفيروز، وأنا كنت أكثر شبها لعاصي، وكانت علاقتى به قوية جدًا، حتى أنه كان يستشيرنى ويجعلنى اقرأ بعض المسرحيات قبل العمل عليها وعرضها. هل عوقبت كثيرًا في صغرك ؟ العقاب طبيعي، أما الضرب لا، لم تضطر فيروز وعاصى إلى ضربنا، لأن جيلنا كان مختلفا.. وتكفى نظرة فقط من فيروز لنكف عما نفعل. "ليال وهلي" أسماء أخواتك غريبة بعض الشيء.. فمن اختارها لهم ؟ والدى من ابتكرهم –عاصى الرحباني- ف "هلي" كلمة تأتى من «أهلي» ولكن مع حذف حرف الألف، وليال جمع ليلة بالسكون على حرف اللام. من كان الأقرب لكِ في إخوتك ؟ ليال كانت دائمًا الأقرب، ف«هلي» مقعد ومعاق، وزياد تركنا واستقل منذ صغره، فلم يكن يومًا قريبًا.. وكانت ليال الأقرب لى كانت الوحيدة التي تشاركنى في حمل المسئوليات، وبعدما توفيت أصبحت وحدي. وكانت أضعف منى في قوة الشخصية، فكانت إذا ما أرادت شيئًا من فيروز أو عاصى تحاكينى أنا لأطلبه وكأنه لي، وكثيرًا ما تبنيت أعمالا سيئة اقترفتها هي، كى أجنبها مشكلات.. كنت أحبها كثيرًا. هل كنت تشعرين بنوع من التعاطف تجاه "هلي" كونه مقعدا ؟ لا.. رأيت عجزه وإعاقته طبيعية، لأننى خلقت على هذه الدنيا ورأيته على هذه الحالة فلم أكن أشعر بشيء غريب على الإطلاق.. وكنت أتناوب أنا وليال مجالسته. كيف توفيت ليال ؟ كان يوم عادي، في المساء جلسنا نشاهد إحدى الحفلات مع أمى على التليفزيون، ومن ثم قمنا للنوم، ولكن كنت أنا وليال متخاصمتين هذا اليوم (لعب صغار)، وفى اليوم التالى استيقظت لأجد أن ليال لا تزال نائمة، حاولت إيقاظها فلم ترد، وكان جسمها باردًا جدًا، فآثرت ألا أنادى أمى حتى أعرف ماهية ما يحدث لها.. فاتصلت بالطبيب وقال أن أفعل بعض الأشياء لكى تقوم، فعلتها ولكنها لم تقم أيضًا.. فجاء الطبيب ومعه الإسعاف، وأخبرت أمى بالأمر قبل أن تصل الإسعاف إلى المنزل.. وتم نقلها إلى المستشفى، وهناك علمنا أنها تعانى من انفجار في الدماغ، وتوفيت بعدها ب 48 ساعة فقط. لم تتزوجى حتى الآن.. كرست حياتك لوالدتك وأعمالها.. فهل تندمين ؟ أحيانًا أندم لأنى لم أعمل عائلة مستقلة لي، لكن إذا عاد بى العمر مرة أخرى أظننى سأفعل الشيء نفسه، لأنهم بالنهاية أهلي ومسئولون مني.. خاصة فيروز لا أريد أن اتركها وحدها. إذن فكرة الزواج بعيدة عن تفكيرك؟ لا ليست بعيدة، فإذا صار وتزوجت بيكون "عال"، وإن لم أفعل لا ضرر في شيء، الإنسان لا يستطيع التخطيط والتحكم في كل شيء بحياته، ولن تستطيع الحصول على كل ما تمنيته. هل كنت تحبين الموسيقى ؟ البيانو في المنزل كان أمرا إلزاميا، مثله مثل الفطور والغداء والوجبات الرئيسية، فكنا جميعنا نعزف على البيانو، وكان زياد وليال يحبون العزف، أما أنا أعرف العزف لكننى لا أمارسه لأننى أكره أي شيء إلزامي، رغم أنى درسته لعشر سنوات ومن ثم بعدما صار لى الحق في اختيار استمرارى في الموسيقى أو تركها.. فتركتها. 10سنوات أي أنك محترفة ؟ ليس احترافا، وإنما درست البيانو ومن بعده درست الهيرمون وcontre-point، ومن ثم بدأت في التأليف الموسيقى مثلى مثل درب العائلة كله.. لكنى قررت تركها لأنه لايمكن للإنسان أن يفعل كل شيء بالحياة، لابد أن يقرر ما الذي يريد حقًا أن يفعله، لذلك قررت التصوير والإخراج. بعد انفصال عاصى وفيروز.. هل بقيا أصدقاء ؟ طبعا. وماذا فعلت في فترة الانفصال ؟ بقيت مع والدى بالبيت، بينما خرجت فيروز. هل كنت تتوقعين خطوة الانفصال ؟ لا بالعكس تمامًا، الانفصال جاء بغتة، وفوجئت كثيرًا أيامها. هل كان عاصى في فترة غيبوبته يتفاعل مع الموسيقى فعلا ؟ نعم.. كنت أنا وليال رافقته في المستشفى، وكنت أعلم جيدا الأغانى والموسيقى التي يحبها، فسجلتها على "كاسيت" لأشغلها في المستشفى، فإذا ما سمع لحنا وموسيقى يحبها تجده يحرك أصابعه كما لو أنه يعزف، وإذا مر لحن لا يحبه تجد أصابعه توقفت عن الحركة. هل نشرت كل أعمال والدك ؟ لا.. هناك كم هائل من الأعمال المكتوبة بخط يده غير منشورة. لا على الإطلاق.. أفعل ما أحبه فقط، ولا تعنينى الشهرة جاءت أم رحلت. هل ترين أن لبنان كرمت فيروز والأخوين كما يجب ؟ لا.. أظن أن لبنان مثلها مثل أي وطن عربى تكرم الفنان بعد موته، ولكن الحقيقة هي أن البلد الذي يكرم الفنان بعد وفاته فهى تكرم نفسها فقط وليس الفنان. ما هي أبرز الصفات التي تعلمتيها من فيروز؟ الصبر والسكوت. هل تتجاوز غضبها منك سريعًا.. وما هي أكثر الهدايا التي تفضلها منكِ ؟ نعم.. هي تتجاوز الغضب و"الزعل" سريعًا من فرط بساطتها، على عكسى تمامًا، وتحب أبسط الهدايا وأفضلها "الورد". عائلة فيروز 1- فيروز: اسمها الحقيقى نهاد حداد، ولدت في 21 نوفمبر 1935، ببيت فقير الحال يتكون من غرفة واحدة في زقاق البلاط ببيروت. 2- عاصى الرحباني: زوجها، توفى العام 1986.. تشارك مع أخوه منصور الرحبانى في تكوين ما سمى "الأخوين رحباني"، حيث ألف ولحن معظم أعمال فيروز، ونتيجة لمشكلات عائلية انفصل عنها قبل وفاته. 3- منصور الرحباني: (صهرها) شاعر ومؤلف، توفى عام 2009. 4- زياد الرحباني: (شاعر وملحن ومؤلف موسيقى) الابن الأكبر لفيروز، هرب من المنزل في طفولته واستقل فنيًا وعائليًا، لكنه لحن وكتب لفيروز عدد من الأغنيات مثل "كيفك انت، سألونى الناس". 5- ليال الرحباني: ابنة فيروز.. توفيت عام 1988 بانفجار في الدماغ. 6- هلى الرحباني: ابن فيروز.. ولد بإعاقة (مقعد). 7- ريما الرحباني: أصغر أبناء فيروز، كاتبة ومخرجة وتعمل على إدارة وتوثيق أعمال فيروز، وهى من ترافق أمها عقب وفاة عاصي.