نهاد حداد: فيروز عاشت التناقض الإنساني بكل مضامينه فيروز كانت تخاف من الناس كثيرًا.. وتعشق الويسكي لم تفعل خيرًا طوال حياتها .. و"بخيلة" وتعشق المال قيثارة السماء كانت تخاف زوجها إذا غضب لأنه كان يضربها وعلاقتها متوترة مع أبناءها.. جافة ولم تقم علاقة مع الناس حالة من الاستياء، شهدها الرأي العام اللبناني، عقب نشر مقال لرئيس تحرير مجلة الشراع اللبنانية، عن المطربة فيروز، خصوصًا وأن المقال جاء في وقت تزامن مع احتفالات "قيثارة السماء" ببلوغها ال80 عامًا، لكن المقال في نفس الوقت أجاب عن تساؤلات عديدة للقراء حول علاقتها بزوجها الراحل "عاصي الرحباني" وأبنائها، وإلى نص المقال.. الإنسانة نهاد حداد، فيروز عاشت التناقض الإنساني بكل مضامينه. "تربية جدية".. دراسة أولية، باتت تقرأ وتكتب، التحقت ب"إذاعة الشرق الأدنى" البريطانية كواحدة من عناصر الكورس مع نصري شمس الدين وعاصي الرحباني وآخرين، وأثناء عملها أعجب بها عاصي القادم من سلك الشرطة المحلية، وتزوجها، (شقيقة منصور كان أيضًا شرطيًا محليًا، وشكل مع شقيقه الثنائي الأخوين رحباني، كتابة أغاني فيروز وتلحينها). الفتاة التي دخلت مضمار الفن بما يعنيه من أحاسيس مرهفة، واختلاط بالناس الكثر والوقوف أمام العشرات ثم المئات ثم الآلاف، كانت تخاف من الناس كثيرًا، إلى درجة العزلة عنهم، فليس لفيروز طيلة 60 سنة بعد دخولها مضمار الفن أصدقاء فهي كما يظهر من قسمات وجهها الجافة، جافة أيضًا مع الناس، لم تصادق أحدًا إلا ما ندر، ولم يعرف من صداقاتها، إلا نساء كانت تتكلم مثلهن على العلاقة معهن. "فيروز" التي حصلت على مال كثير، لم تفعل خيرًا في حياتها "بخيلة" نعم، وتحب المال بشغف شديد، ترفض أن تغني في أي مناسبة يعود نفعها لأي مؤسسة اجتماعية، وتشترط أن تقبض سلفًا مقابل الغناء في أي مناسبة، وعندما اشتهرت وباتت مطلوبة مع فرقتها الكبيرة، كانت تتمنع عن حضور أي حفلة خيرية، فيرسل عاصي ومنصور الفرقة كلها، إلى هذه الحفلة ليحصل عناصرها على أجورهم، ويستعيض الإخوان رحباني عن فيروز بالمغنية (جورجيت صايغ) التي تغني أغنيات فيروز الغائبة لأنها لن تقبض أجرها المرتفع. كان الفنان المبدع فيلمون وهبي صديق الرحابنة وزميل الهانم الجميلة، ركنًا من أركان مسرحيات الأخوين مع فيروز، طلبها مرات كي تغني مع فرقتها في بلدته كفرشيما، كان في تقليد يريد فيه تكريم أهل البلدة المارونية، وفي كل مرة كانت ترفض، لأنها كانت تعرف أن الحفلة مجانية، ولن تحصل على المال فيها. حتى عندما كان رئيس الجمهورية فؤاد شهاب يرعى حفلات مجانية للجيش اللبناني، ويطلب حضور فرقة الأخوين رحباني لتقدم إحدى مسرحياتها لعناصر الجيش وضباطه، كانت الفرقة كلها تحضر وتحصل على أجورها.. ومنهم إيلي شويري وجوزيف عازار وملحم بركات بغياب فيروز، التي كانت تشترط الحصول على المال في حفلة مجانية. كلفت أخاها إلياس أن يقبض مال حفلاتها، فاحتفظ لنفسه بمواردها فاتهمته بالسرقة فهاجر إلى أمريكا بعدها. لم تحب فيروز الصحافة ولا الصحافيين ولا الإعلام، ولا تحمل صفحات أي مجلة فنية أو سياسية أو إذاعة، أو محطة مرئية أرضية أو فضائية حوارًا أو مقابلة مع فيروز، وتحتفظ إذاعة للبرنامج العام في القاهرة بحوارات مسجلة مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب والأخوين رحباني في منزل عاصي وفيروز في لبنان، ويستمع الناس إلى أصوات الرجال الثلاثة ويغيب صوت فيروز رغم أن الحوار مسجل في منزلها. "ملتزمة بيتها".. رفيقها الدائم هو كأس الويسكي من نوع "تشيفزريغا" أعجبها عندما شربته في إحدى زياراتها لأمريكا حتى أدمنته ليلاً ونهارًا، هربًا من مشاكلها لتنسى ما تعانيه مع عاصي الرحباني وأولادها، وكم كانت بخيلة على نجلها زياد رغم أنه كان ابنها المدلل. "مزاجية.. عصبية" شريكها في هاتين الصفتين هو نفسه شريك حياتها عاصي، العصبي المزاج الشرس إذا غضب، كثيرًا ما بهدَّل فيروز، وضربها وشتمها، وما كان يعطيها المال الذي تربحه لتشتري فساتين لائقة لتظهر بها أمام الناس. ومع هذا، كان يطلب ممن حوله إذا شاهدها عصبية تصرخ أن يتركوها لشأنها وألا يقتربوا منها، مرددًا: (الله يخليكم لا تزعلوا فيروز)، وكم كانت فيروز تخاف عاصي، وتتجنبه حين يغضب، لأنها ذاقت معه الأمرّين في غضبه وعصبيته، وهو أحبها كثيرًا، لكنه خانها أكثر، وكانت فيروز تعلم أنه أغرم بكثير من فتيات الفرقة، لكنها ما كانت تجرؤ على مواجهته، لأنه كان جبارًا قاسيًا لكنها عاقبته بطريقتها، كما تعاقب أي امرأة رجلها دون أن يدري. "مزاجها مزعج".. حتى لمن تعرفهم ويعرفونها، إذا اتصل أحدهم بها هاتفيًا، ترفع السماعة وتنتظر سماع صوت من يطلبها، وكثيراً ما كان الطالبون يعرفون عن أنفسهم بالقول: (يا ست فيروز أنا فلان)، قد ترد مرة، وقد ترفض الرد مرات، مكتفية بإطباق السماعة على قفلها. "فيروز الجافة لم تقم علاقة مع الناس".. كانت ذات دمعة سخية، ما تركت المسرح مرة بعد انتهاء وصلة غنائها إلا باكية، أحيانا وهي تغني، وكثيرًا ما بكت بعد إنهاء وصلة حفلتها، وكانت تسارع إلى غرفتها تقفل بابها بالمفتاح وتنفرد بنفسها تبكي، ولا يجرؤ أحد على قرع بابها، ويتجنب عاصي الاقتراب منها إلى أن تعود إلى حالتها الطبيعية. فيروز ومحمد الموجي ورياض السنباطي قابلتها لأول مرة وآخر مرة في مايو 1992 في منزلها في الرابية، وقد اصطحبني إلى لقائها صديقي حسين يتيم، سألتها وصديقي عن سبب انقطاعها عن الغناء، فردّت أنها لن تغني في مكان مقفل يسع لمئات بل تريد الغناء أمام الآلاف، قال لها صديقي حسين: إنه "مستعد أن يرتب لها الفنادق في صور في ملعبها التاريخي الذي يسع لأكثر من ثلاثين ألف إنسان، فرحبت وطلبت منه متابعة هذا الأمر، وكان صديقي يومها مستشارًا سياسيًا لرئيس حركة أمل الوزير نبيه بري (أصبح رئيسًا لمجلس النواب منذ أكتوبر من العام نفسه وحتى الآن)، وانشغل صديقي بترتيب الحفلة الغنائية، لكنها لم تتم لأن فيروز ما عادت ترد على اتصالاته. ومن جهتي سألتها عن ألحان الموسيقار الكبير رياض السنباطي الذي أعدها لها لتغنيها ولم تسجلها رغم أنها حفظتها معه، فتجاهلت الأمر. سألتها هل تمانعين إذا أعد لك محمد الموجي لحنًا لتغنيه فقالت بالعكس يا ريت.. هذا الفنان موهوب جداً، سألتها إن كنت أستطيع مفاتحته بالتلحين لها.. فرحبت بحرارة.. قلت لها: سيدة فيروز أنا ذاهب بعد عدة أيام إلى الحج وبعد عودتي، سأسافر مطلع الخريف إلى القاهرة لأتصل بالأستاذ الموجي وأعرض عليه الأمر لأحصل على موافقته. ويشهد الله أن نيتي كانت أن أستضيف الموسيقار العبقري محمد الموجي في بيروت على حسابي (تذكرة سفر وإقامة وضيافة) إلى أن يتفق مع فيروز. كنت فرحًا كثيرًا، وتوجهت إلى القاهرة في أكتوبر 1992، ورتب زميلي مدير مكتب (الشراع) في القاهرة صقر بدرخان موعدًا لي مع الأستاذ الموجي، وقابلته وعرضت عليه الفكرة.. فرحب بها كثيرًا سعيدًا بأن تغني فيروز من ألحانه، عدت إلى بيروت فرحًا أكثر.. اتصلت بفيروز هاتفيًا، ردت عاملة في منزلها على الهاتف.. جاءت ابنتها (ريما) كلمتني بجفاء شديد كأنني أشحذ منها، قلت لها ما حصل سابقًا مع فيروز والموجي.. قالت: طيب قلت لها وقد استفزني جفاؤها بل قلة ذوقها، على كل سجلي رقم هاتفي وأنا في (الشراع)، ويمكن الحصول على أرقامي وأقفلت سماعة الهاتف وأنا في حالة غضب. وفي فبراير كنت في الرياض لحضور مهرجان الجنادرية، قابلت الموسيقار الموجي وكان مدعوًا ضيفًا على الأمير بدر بن عبد العزيز، سألني: فين فيروز يا صديقي.. شرحت له ما حصل، استغرب قائلًا لي بالحرف: أنا أسمع كثيرًا عن مزاج فيروز وعصبيتها.. ملهاش نصيب معايا. بهذه المزاجية تعاملت فيروز مع عبقريين في الموسيقى العربية رياض السنباطي ومحمد الموجي، وإن كانت غنت لعبقريين آخرين هما سيد درويش (زوروني كل سنة مرة.. وشط إسكندرية يا شط الهوا) ومحمد عبد الوهاب (يا جارة الوادي، وخايف أقول إللي في قلبي). أما في السياسة فاقرأوا العجب عام 1993 كان الرئيس رفيق الحريري يريد النهوض بالوسط التجاري لمدينة بيروت، بعد أن دمرته الحرب الأهلية (1975 - 1989)، فعمد إلى بناء جامع للمسلمين في ضفتها الغربية والمسيحيين في ضفتها الشرقية، ووجد أن الفن أفضل طريق وأن فيروز ستكون رمزه فاتفق معها على إحيائها حفلة مقابل 300 ألف دولار دفعها لها، ويكون الحضور فيها مجانًا لعشرات الآلاف من البيروتيين. وكانت فيروز تجري تجارب لأغانيها كل يوم، وبعد ظهر كل يوم تقريبًا في مسرح أعد على عجل في الوسط التجاري. عاد الحريري في أحد الأيام من إحدى سفراته الكثيرة وطلب من سائقه التوجه من المطار إلى الوسط التجاري ليحيي ويطمئن على إجراءات الحفل، وصل الحريري مكان المسرح وجلس خارجه مع أصدقاء، طالبًا إبلاغ السيدة فيروز أنه يريد تحيتها بعد انتهاء تمارينها، فقالت: بل "أنا سأذهب إليه أنا سأنزل إليه بعد انتهاء البروفة" - "انتظر الحريري عشر دقائق بعد صمت العزف الموسيقي.. متوقعًا مجيء فيروز، ليفاجأ بأحد مرافقيه يبلغه أن فيروز غادرت من الباب الخلفي للمسرح المقام في الهواء الطلق.. دون وداع أو اعتذار"، صدم رئيس الوزراء وعاد إلى داره حائرًا، ومع هذا أقيمت الحفلة وغنت فيروز بعد أن قبضت ال 300 ألف دولار عام 1993. مع حافظ الأسد كانت علاقة فيروز والأخوين رحباني أكثر من ودية مع حافظ الأسد في سورية، فقد كان الثلاثة ضيوفًا دائمين مع فرقتهم لسنوات في معرض دمشق الدولي، وكانت فيروز تغني في مسرحياتها ل 20 يومًا متتاليًا في حفلات كاملة الحضور أمام الجيش السوري وأجهزة الأمن وضيوف الرئيس وأعضاء الحكومة والنواب، وفي كل مناسبة للمعرض الدولي كان حافظ الأسد يستقبل فيروز والأخوين رحباني، وقد قدم في أحد استقبالاته لهم سيفًا دمشقيًا مرصعًا بالذهب لفيروز وقدم مسدسين مذهبين لعاصي ومنصور، وعندما مرض عاصي تولى حافظ الأسد الإنفاق على علاجه، فكان الثلاثة شديدي الوفاء لسياسة حافظ الأسد القاهرة ضد لبنان وأهله لثلاثين سنة تلت. غير أن أخطر وقائع العلاقة بين الأخوين الرحباني وفيروز مع السياسة السورية هو ما رواه ابن فيروز وعاصي، الفنان زياد الرحباني، عندما أطل على محطة مرئية لبنانية، وروى أن أمه وأباه كانا يستقبلان ضباطاً سوريين عسكريين وأمنيين في منزلهما في الرابية شمالي بيروت وكان ضباط الجيش السوري في منزل فيروز وعاصي الرحباني يضعون الخطط العسكرية لإسقاط مخيم تل الزعتر الفلسطيني المحاصر من الجيش السوري والمليشيات المسيحية (كتائب.. أحرار) أثناء تبادل قرع كؤوس الويسكي وحول مائدة طعام عامرة تعد لها فيروز وطباختها). وفي النهاية سقط مخيم تل الزعتر بعد قتل المئات من سكانه وشرد الآلاف في 12/8/1976، وتم جرفه بالكامل ليقام مكانه مبان سكنية بعد تهجير كل سكانه من فلسطينيين ولبنانيين مسلمين. لقد كان حافظ الأسد كريماً جداً مع فيروز والأخوين رحباني.. فرد هؤلاء كرمه بموقف أكثر كرماً في السياسة، لكنه على حساب دماء آلاف اللاجئين الفلسطينيين. يبقى أن نختم بأن الشاعر الكبير سعيد عقل كان يعشق فيروز عشقًا روحيًا، ومن أجل هذا العشق كان يكتب قصائد تغنيها فيروز بعضها يشير إلى أنها من تأليفه وكثير منها غنتها فيروز على أنها من كلمات الأخوين رحباني، ولم يكن سعيد عقل الوحيد الذي تبرع للأخوين رحباني بهذا الإيثار بل أن أمير الشعراء الأخطل الصغير (بشارة الخوري) تنازل عن وضع اسمه عن قصائد أعطاها للأخوين رحباني فنسباها لهما، والأخطل الصغير كان قريبًا لهما وهو كان متزوجًا من إحدى قريبات الأخوين رحباني، وعند هذا الحد نسكت عن المباح وغير المباح من الكلام.