تنطلق ثورات الجياع من أكثر المدن والقري فقرا، ويكون لها طابع خاص مختلف عن غيرها من الثورات المطالبة بالديمقراطية والحرية، وقد شبهها الدكتور أحمد عكاشة -أستاذ الطب النفسي- بأنها كالقنبلة، التي تنفجر بقوة ولا يستطيع أحد الوقوف في وجهها ويتم تصنيع تلك القنبلة يتم تصنيعها فى بيوت قوامها الفقر والجوع، حوائطها من خشب، لا تقوى أمام برد الشتاء، ولا تحجب حرارة الشمس الملتهبة فى قيظ الصيف، يقطنها أناس، يحيون حياة كالعدم، ترى الحاجة والعوز فى أجساد نحيلة، مليئة بالضعف والهزال، فيتحول أصحابها إلى كتلة من الغضب. مناطق لا تسير فيها بمفردك فى الشوارع الضيقة التى تكاد المنازل فيها تلتقى عند الشرفات، فى منطقة بولاق الدكرور القديمة، أبناء المنطقة يعرفون بعضهم بعضا، وينتظرون أى غريب من أجل البحث فى جيوبه عن هاتف محمول أو نقود يسدون بها جوعهم الابدي، وأبناء تلك المنطقة يشكلون القوام الأكبر من بلطجية شارع الهرم، كما أن بنات المنطقة يشكلون النسبة الأكبر من الفتيات العاملات فى محال وسط البلد، والمهندسين، وفى تلك المنطقة تتعدد الحجرات المفردة التى تضم الواحدة فيها عائلة بأكملها، فالكثير من منازلها مبنى على هيئة حجرات وليست شققاً، يضم الدور عددا من الحجرات يتراوح بين 3 و5 حجرات بحسب المساحة، وفى كل دور حمام واحد يستعمله الجميع، والنوم فى تلك المساكن يكون بالتناوب فى العائلات كبيرة العدد، حيث ينام الأب والأبناء الذكور بالنهار، وتقضى الأم وبناتها تلك الفترة خارج المنزل, إما فى العمل او عند جيرانها أو أقاربها، وعادة لا يسأل الأب وأبناؤه عن المكان الذى ذهبت إليه نساء العائلة طوال فترة النهار، وإذا جاء الليل، نامت النساء، وخرج الرجال يقضون الليل كله خارج السكن, فمن يعمل منهم يكون عمله ليلا، ومن لا يعمل يكون ليله على المقهى، أوعلى ناصية الشارع فى انتظار الوافد الي المنطقة ليقوم بتثبيته ونهب امواله . بابتسامة تخفى الكثير من البؤس يستقبلك اطفال المقابر، وبصوت خنوع ملىء بالانكسار يهمسون إليك فى ود مصطنع, يرجون منك نصف جنيه لسد الرمق، أما الرجال فحالهم أكثر بؤسا وشقاء، فالأفواه المفتوحة فى المنزل الخشبى تصرخ من الجوع، وصرخاتها تكاد تشق قلوب الآباء الذين لا يملكون من أمرهم شيئا غير الصبر، الذى بدأت حباله فى التمزق، وبات الانفجار بالثورة وشيكا. بين حى الحسينية وشارع المنصورية بشمال العاصمة تقبع منطقة مقابر باب النصر، والتى تضم وفق تقارير بعض المنظمات الحقوقية أكثر من 2000 مواطن، من جملة 2 مليون مواطن يسكنون المقابر، لا أعرف لماذا تذكرت الحديث المرفوع لأبى ذر الغفارى الذى قال فيه:«عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه»,عندما دخلت المنطقة، ففى منازل من الكرتون المقوى والخشب «الابلاكاش» يحيا اناس منا، يمتلئون بالمرارة والألم، كانوايعيشون على أمل أن تنظر إليهم الحكومة بعين الرحمة او العطف، وان تدرك انهم معنا على ظهر السفينة، لكن خاب رجاؤهم، ومع كل يوم تمتلئ قلوبهم بالحقد على المسئولين الذين لا يرون الأحياء الموجودين فى حضن الأموات فى تلك المقابر. امام مدخل أحد المنازل الخشبية جلست عائشة عبد ربه , امرأة فى العقد السادس من عمرها، تجاعيد وجهها ترسم خريطة لوطن مليء بالحسرة والألم، اقتربت منها، ظنتنى لأول وهلة من أصحاب الحوش، وما ان أبصرتنى حتى عرفت أنى غريب عن المكان، عرفتها بنفسى، رحبت بى وكأنى احد أفراد عائلتها، وطلبت منى أن أدخل منزلها المكون من حجرة خشبية لتعد لي كوب شاي كواجب ضيافة .. يتوسط الحجرة شاهد قبر, بجواره حصيرة تفترش الأرض فوقها مجموعة من الخرق البالية, مطوية وكانها فراش معد للنوم, من جهة رأس القبر تقبع مخدة صغيرة مكسوة بغطاء أصفر شاحب لكنه نظيف، فى الناحية المقابلة للقبر، شعلة بوتجاز صغيرة، بجوارها ثلاثة من جرادل المياه، أحدها مغطى، بجوارها كنكة كبيرة للشاي، لا تكاد تبصرها من كثرة ما عليها من سواد، عند نهاية الحجرة يوجد «جردل» تفوح منه روائح كريهة، بجواره مصطبة عليها أكياس سوداء. قبل كل شيء سألتها عن الجردل ذى الرائحة الكريهة ..ابتسمت ابتسامة حزن، وقالت فى صوت خجل :«ده الحمام بتاعى» ..اندهشت , فسالتها :هل أنت الوحيدة التى تعيش فى المكان بدون حمام؟ فقالت: «كل البيوت اللى فى الحيشان اللى حوالينا مافيهاش حمامات، وكلهم عاملين جردل يستعملوه كحمام، ويتم إفراغه خارج الحوش، بمسافة كبيرة عشان المرض». قدمت لى كوب الشاى، وسألتها عن الثورة, فقالت: أنا ما أعرفش الثورة , وأعيش بمفردي بعد وفاة زوجي وزواج بناتي الثلاث خارج منطقة المقابر, وأسكن هنا منذ أكثر من 35 سنة، بعد أن اختلف زوجها مع أهله وانفصل عن بيت عائلته بحى بولاق الدكرور. محمد ريشة, سائق يقطن ذات المنطقة ، وهو زوج وأب لثلاثة أطفال, أكبرهم تلميذ فى الصف الرابع الابتدائى، يقول بنبرة حادة وصوت غاضب: إنه فاض به الكيل من كثرة التجاهل الحكومى، وقال «احنا مش هفية عشان الحكومة متسألش فينا», وأضاف « احنا يمكن نكون ما نعرفش الثورة واللى بيحصل في البلد, بس نعرف كويس إننا محتاجين سقف يحمينا ويحمى عيالنا من برد الشتا، وإننا محتاجين لقمة عشان نعيش، والحكومة لو معرفتش توفر لنا حقنا احنا هنعرف ناخده بنفسنا». فى منطقة الزبالين بمنشية ناصر بالقاهرة يعيش أكثر من 40 ألف نسمة، لا يؤمن اهل المنطقة بالتعليم بقدر ما يؤمنون بجمع الرزق من أكوام القمامة، فما أن تدخل المنطقة القريبة من ميدان الفرن حتى تجد الأطفال فى سن التعليم يحملون أجولة من القمامة فوق ظهورهم، يفتشون عن لقمة العيش بين مخلفات البشر، لا يهتمون للروائح الكريهة، أعينهم ألفت مناظر القمامة وأيديهم من كثرة ما انغمست فى الزبالة باتت لا تعرف معنى النظافة. على خميس الزبال, هكذا عرف نفسه، عمره تجاوز 45 سنة، أب لثلاثة أولاد وبنتين، اكبرهم فى الجيش، قال إنه يعمل فى مهنة جمع القمامة منذ أكثر من 35 سنة، وأضاف ان أولاده جميعا يعملون بنفس المهنة، وزوجته تقوم بفرز القمامة المجموعة لبيعها للورش المحيطة بالمنطقة، انتقد خميس الإهمال الحكومى لمنطقة حى الزبالين، وقال «الحكومة بدل ما تساعدنا وتعلم العيال حاجة تنفعهم فتحت فى المنطقة مدرسة بتعلم العيال فيها ازاى يجمعوا الزبالة وسموها مدرسة إعادة التدوير», وأكد خميس أن جمع القمامة مهنة مربحة ولكن ربحها يعود على المعلمين الكبار, اما هو وأمثاله من أبناء حى الزبالين فما يجمعونه لا يكاد يكفي معيشتهم، وقال «الناس تعبانة من المعايش الصعبة، والحكومة ودن من طين وودن من عجين، ولا ثورة نفعت ولا حاجة، واللى جه بقى أصعب من اللى راح، واحنا تعبنا، ونفسنا فى لقمة نضيفة، وهدمة نضيفة للعيال». وفى حلوان توجد «عزبة كامل صدقي» ، والتي لا تزيد مساحتها علي خمسة أفدنة, وتضم ما يزيد علي نصف مليون نسمة، تكثر فيها جرائم القتل، والسرقة، والبلطجة، وتجارة السلاح والمخدرات عرض الشوارع يتراوح بين متر واحد وثلاثة أمتار، تنتشر فكرة الشراء علي «النوتة» كما كان في السابق، فدخول الافراد تتنوع بين المعاشات- لا تزيد علي ألف جنيه في أقصي تقدير- أو شباب ينتقلون بين حرفة وأخرى، ومنهم من يعتقد أن طريق الثراء سيكون أسرع إذا تاجر بالبانجو أو الحشيش, فينتهي مصيره الي السجن ، وليس ببعيد من يؤجر أسلحة آلية، ليسطو علي السيارات المارة في الطريق بعد منتصف الليل, فيقتل من فيها، ثم يبيع السيارة بأسعار زهيدة، وسرعان ما يحاول تكرارها مجددا، لكنه في المرة الثانية يلقي مصرعه في مطاردة مع قوات الأمن، كل هذه القصص من واقع هذه المنطقة. أما مساحة الشقة فهى لا تزيد علي 50 مترا، يعيش بداخلها 6 أفراد في المتوسط ، تلجأ السيدات للعمل لمساعدة أزواجهن، فتقوم بالخدمة في المنازل، أو تنتهج احدي المهن الحرفية كالتطريز والتفصيل، وتسوق منتجاتها للمكتبات . ويعمل الأطفال في ورش السيارات، والنجارة، عشر ساعات يوميا ويتقاضون 10 جنيهات في اليوم، لمساعدة أسرهم، وتلجأ بعض الأسر إلي إنجاب الكثير من الأطفال لمساعدتهم في العمل، ومساعدة أسرهم في التغلب علي الظروف المعيشية الطاحنة .