نهلة أحمد حسن، لم تكن تخطت بعد عامها السادس، وحصلت على لقب "بنت الشهيد".. رحل أبوها – ليس كما يرحل الناس- شهيدا، كان مات دفاعا عن أرض بلاده.. مات الذي كان يعرف أنه سيكون شهيدا منذ الطفولة.. فالأم – الجدة- حلمت بأن ستنجب طفلا سيكبر ليكون شهيدا.. وقد كان الشهيد المقاتل مقدم أحمد حسن. "نهلة" بعدما تمكنت بفعل الزمن من التماشي مع فكرة غياب الأب، بدأت رحلة البحث عن "سيرة الأب"، التقت عددا من زملائه في الكتيبة التي كان في يوم من الأيام والدها قائدا لها، بحثت في عيونهم عن صورة الأب الشهيد، وأخرجت من بين كلماتهم حكايات جعلتها ترفع رأسها عاليا، فهى "بنت الشهيد".. وعن حكاياتها تلك، والصورة التي رسمتها عن أبيها وأمور أخرى كان الحوار التالى: بداية.. كيف وصل إليكم خبر استشهادك والدك.. والأسرة كيف تقبلت أمر غيابه هذا وقتها؟ والدى.. قبل أن ينطق الشهادة، وتحديدا أثناء عبوره وهو جريح على المعدية إلى الجيش الثاني بالإسماعيلية كان معه جندي في سيارة الإسعاف قال له اكتب هذا العنوان وكان عنوان خالي عصام، وقال له أخبر والدتي وأولادي نهلة وخالد أننى بخير، وطلب منه أن يقول لهم على لسانه "سامحوني نسيتكم وافتكرت مصر"، وبعد أن انتهى من الرسالة تلك، ابتسم ثم نطق بالشهادة. "سامحونى نسيتكم وافتكرت مصر".. هذه الجملة ظل خالي يرددها لي منذ ذلك اليوم حتى عرفت معناها، وتحديدا في العام 1999 عندما وجهت لنا دعوة بحضور حفل تخرج دفعة من قوات الدفاع الجوي وعندما ذهبنا للاحتفال وجدنا أن الدفعة رقم 27 أطلق عليها دفعة الشهيد مقدم أحمد حسن، وهذا تقليد متبع في أفرع القوات المسلحة، بأن يتم إطلاق اسم أحد الشهداء المتميزين على رقم الدفعات، لكن الجديد وقتها هو ما سمعته من بطولات عن والدي فكم كنت فخورة بما قام به ومن وقتها عاهدت نفسي بالبحث عنه وسط جنوده وزملائه الذين كانوا معه وقت استشهاده حتى أشعر أننى كنت بجانبه في هذه اللحظة ممسكة بيده المضيئتين بين يدي وأقول له أنت الذي تسامحنا لأنك أشرف وأطهر من عالمنا بكثير ولأنك في مكان نتمني أن نلقاك فيه. لتروي لنا أكثر عن حياة الشهيد أحمد حسن؟ الشهيد أحمد حسن هو لقب اتخذه منذ ولادته فوالدي كان أكبر إخوته وأثناء حمل جدتي فيه روت أنها رأت في المنام أنها رأت الرسول "ص" ساجد وأمامه 13 نجمة وعندما قصت الرؤية على جدي، وكان أزهريا، سأل فيها العديد من فقهاء الدين فقالوا له إن ربنا سيكرمه بولد ولكنه سيكون شهيدا ذا منزلة عظيمة فكان جدى يقول له دائما: "لما تكبر هتموت شهيد". وروى لى أيضا أن أبى الشهيد عندما كان صغيرا، كان لا يهاب أي شيء ويفعل أشياء من الصعب أن يقوم بفعلها من هم في سنه، وعندما يري الحيرة في نظر من حوله يقول لهم "أنا مش بخاف أنا هموت شهيد" وكان جدي ينمي فيه هذه الصفة فكان يأخذه معه ويتبرعوا لإخواننا في فلسطين أيام قطار غزة ويعلمه معني وفضل الشهادة منذ صغره. ثم مات جدي، عندما كان أبى في الرابعة عشرة من عمره، ليتحمل بعد رحيل والده مسئولية تربية إخوته ورعاية والدته، وعندما مات جدي كانت عمتي الصغرى عمرها 40 يوما فصارت تقول لأبي يا "بابا" حتى أكملت 6 سنوات وفي اليوم الدراسي الأول علمت أنها يتيمة الأب وكانت صدمة كبيرة بالنسبة لها أن من تظنه والدها هو شقيقها وليس أباها كما كانت تظن. والدى أيضا كان متفوقا في دراسته ودخل كلية الطب وفي السنة الثانية أدرك أن الطب لن يوصله للطريق الذي خلق من أجله وهو طريق الشهادة فقرر تحويل أوراقه إلى الكلية الحربية التي تفوق فيها منذ العام الأول، وعُين مساعدا للدفعة نظرا لتفوقه الدراسى والتزامه الأخلاقى، بعد أن تخرج تم إلحاقه بسلاح المدفعية المضادة للطائرات قبل إنشاء الدفاع الجوي، وتزوج والدتي وتم نقله إلى أسوان قائدا لكتيبة الدفاع الجوي المكلفة بحماية السد العالي، وميلادى كان هناك، ثم عادت الأسرة مرة أخرى إلى القاهرة. أبى خلال فترة عمله سافر إلى روسيا مرتين وكان يبهر الروس بتفوقه وكثرة معلوماته حتى كان يظن الروس أنه جاسوس أمريكي قادم مع الوفد المصري وكانوا يقولون له "شكلك مش مصري شكلك أمريكاني" وفي الزيارة الثانية عاد بالصاروخ سام 6 أشهر الصواريخ الذي حاربنا به في أكتوبر 73. تحدثت حول أنك بحثتى عن والدك في عيونه رفاقه.. وفقا للروايات التي رويت عليك.. كيف كان الشهيد أحمد حسن؟ الشهيد أحمد حسن هو قائد كتيبة الدفاع الجوي التي أسقطت بأول صاروخ أطلقته أول طائرة فانتوم للعدو في حرب أكتوبر، كما أنه صاحب أشهر صاروخ أصاب طائرتين وأسقطهم في وقت واحد هذه المعجزة لا يزال يتم تدريسها حتى الآن في جميع المعاقل العلمية المصرية والعالمية كيف يقوم صاروخ واحد بإسقاط طائرتين. *احكي لنا عن هذه الواقعة وماذا كان يقول عند إطلاق الصاروخ تجاه الهدف؟ علمت من اللواء عبد العليم البكري - وكان أحد زملاء أبى في الكتيبة- أنه عند اندلاع حرب أكتوبر استهدفت 4 طائرات للعدو اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني وقتها أثناء مروره على الجبهة فتلقت كتيبة والدي إشارة الطائرات الأربعة، فرد عليهم بثلاث صواريخ دفعة واحدة اثنان منهما أصابا طائرتين والصاروخ الثالث أصاب طائرتين في وقت واحد، ونجا اللواء سعد مأمون وأرسل ضابطا من عنده وقال له اذهب إلى كتيبة الصواريخ التي أسقطت الطائرات الأربع "وبوس كل واحد فيها" واشكر لي قائدها حتى أراه، وبالفعل ذهب الضابط إلى الكتيبة ونفذ الوصية وقدم الشكر لوالدى. أما الملازم محمد السحراوي الذي كان ملازما لوالدي حتى يوم استشهاده قال لي إن والدى "البطل" قائدي كان يقول قبل إطلاق أي صاروخ الآية "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" ويطلق الصاروخ تجاه أي هدف فيصيبه فورا. *متي وكيف استشهد البطل أحمد حسن؟ استشهد أبى وهو صائم يوم 22 رمضان الموافق 18 أكتوبر من العام 73 في وسط كتيبته بسيناء، وروي لي الملازم محمد السحراوي أن والدي ذهب لإصلاح إحدى منصات الصواريخ التي تعطلت أثناء عملها وكانت معه مدرعة إنقاذ يقودها جندي ومنصات الصواريخ في حرب أكتوبر كانت هدف لكل طائرات العدو لأنها تطلق الصواريخ وتجري بسرعة فائقة وهذا سر تفوقها في الحرب وتم رصد المنصة وهي واقفة وتم ربطها بمدرعة الإنقاذ لجرها إلى مكان أمن وتصليحها وأثناء وقوف أبى بين المنصة والمدرعة أطلقت إحدى طائرت العدو صاروخ فتحركت المدرعة وسقط أبى تحت الجنزير، وعندما أخرجوه من تحتها كان حيا وقال لي "السحراوي" إنه سأل والدي عن إصابته أكد له أنه بخير، وكل ما في الأمر أنه يشعر بألم في الظهر، وطلب العودة إلى الكتيبة، ثم قام بلفه في بطانية وتوصيله إلى الإسعاف وكان سليما. كما أكد لى أيضا أنه فوجيء بنبأ استشهاده بالليل عند عودته إلى موقع الكتيبة، وتحديدا عند سؤاله عنه، ليخبره الجميع هناك أنه نال الشهادة. وقال لى أيضا: "لا أنسي أبدا أنه نعم القائد والمعلم فأثناء الحرب تهت ومعى ثلاثة جنود في صحراء سيناء وهو لم تغمض له عين وقام بالبحث عنا بسيارته الجيب لمدة 3 أيام حتى وجدنا وعندما رآنا أخذ يحضن فينا ويطمئن علينا ويؤكلنا بيديه لم أر هذا الحنان من إنسان أبدا ولا أنسي اللهفة التي قابلنا بها وكأننا أبناؤه وفقدنا ثم عدنا إليه هذه المواقف لا أنساها ما حييت" نهلة بنت الشهيد البطل أحمد حسن كيف تري مصر؟ أرى مصر بعيون أبى الذي عشق ترابها ولم يبخل بحياته فداءها لأن خالي كان يغرس في أنا وأخي منذ استشهاد أبي حب مصر فكان يعلق خريطة سيناء على باب غرفتي ويرفعني وأنا صغيرة ويشير لي على الموقع الذي استشهد فيه والدي ويقول "هنا دم أبوك الذي حارب اليهود واسترد سيناء عشان إحنا نعيش في سلام وحررها لنا وضربهم أوعوا تفتكروا أن الشهداء دول ضحوا بأرواحهم هباء لكن كانت لهم رسالة خلقوا من أجلها وعندما أدوهوا رحلوا".