إنه كابوس سأفيق منه الآن يا بحر أليس كذلك؟.. أرجوك أكد لي ذلك فإني أسمعهم يقولون أقاويل تثير العجب.. يقولون إنك ابتلعت فلذة كبدي وولدى.. إن مياهك الزرقاء سوف تمحو ملامحه.. يطالبونني أن أصبر وأتحلى بالجلد وأن أحتسبه عند الله.. يقولون لى أقاويل عدة تبث في نفسي الرعب وهم يظنون أنها تواسيني.. أجلس أمامك على الشاطئ أنتظره يعود ولا أسمع صوتًا سوى صوته ولا كلمات غير تلك التي كان يودعنى بها قبيل رحيله، لم أكن أعرف أن وداعه أبدي، لم أكن أعلم أن هذه هي المرة الأخيرة التي سأراه فيها وأحتضنه.. يا ليتني علمت.. كنت سأمنعه.. وسأمنع أحلامه وأحلام أسرتنا بحياة أفضل.. كنا سنرضى بكل ما نعيش فيه من فقر وجوع فقط ليبقى معنا.. يا ليته ما استسلم لنداهة أرض الأحلام البعيدة.. يا ليتني ما طاوعته ووفرت له ثمن تذكرة رحلة الموت.. يا ليت. أجلس أمامك هنا يا بحر منذ علمي بما حدث، ناجيتك منذ لحظة وصولى إلى شاطئك أن تلفظه إلىِ سالمًا، كنت أقفز من مكانى وبارقة أمل تدب بداخلي كلما علمت أن هناك شخصا انتصر في معركته مع أمواجك.. آمل بأن يكون ولدى بينهم.. أراه فأعنفه على إصراره على السفر ثم أحتضنه لأنه عاد لى من جديد وأرسم معه خطة جديدة للحياة وأطعمه وأمنحه الدفء الذي افتقده في رحلة الموت في عرض بحر لا يعرف الشفقة، ولكنك خذلتنى.. وخذلنى الأمل الذي خفت تمامًا بداخلى مع اقتراب شمس اليوم الأول من المغيب.. هل تعلم يا بحر.. لم يكن لدى مانع أبدًا أن يُلقي فلذة كبدي مع من ألقي من الناجين في غياهب القسم أو أن يُحاكم ويسجن إلى ما لا نهاية.. أو أن يضيع مستقبله تمامًا خلف قضبان السجون على أرض وطنه.. ولكنك قتلت أملى ولم تلفظه يا بحر. لا زلت في مكاني أمامك.. عاد لى الأمل من جديد يا ذا المياه الزرقاء التي ضاع ابنى بين أمواجها.. ولكنه أمل من نوع آخر.. فقد أصبحت أمنيتي الوحيدة أن أجد جثمانه قبل أن يذيبه ملحك ويضيع ملامحه التي لطالما أحببتها منذ أن كان طفلًا صغيرا يلعب ويلهو من حولى.. أتضرع إلى الله بأن تلفظ يا بحر جسده الميت لكى يتم تكريمه بدفنه في مقابر العائلة وبين "تراب" قريته.. فأتمكن من زيارته في الأعياد والمواسم وأقرأ علي روحه القرآن في ساحة المقبرة، وأوزع فواكه وكعك وخبز "رحمة ونور" على روحه.. وأحدثه بصوت عال عن أحوالنا وعذابنا بدونه وأنا على يقين بأنه يستمع إلى. يقتلنى الوقت.. كل دقيقة تمر تذيب جزءا من روحى.. والأمل يخفت قليلًا ثم يعود مع كل جثة تخرجها قوات الإنقاذ أو الصيادين وسرعان ما أعود إلى مكانى مخذولًا.. نناجى المسئولين أن يسرعوا في استخراج الجثث ولكن الأيام تمر والجثث تخرج ولا أثر لولدى بينهم. أطفال بلا رأس.. جثث بلا ملامح.. رائحة الموت في كل مكان وأنا لازلت أنتظر في المكان ذاته.. أملى الأخير في أن أجد ابني وسندي في هذه الدنيا بين الأموات في ثلاجة المركب، أن يحنو على القدر وأن يكون بين هؤلاء الذين لم تُكتب لهم أي فرصة للنجاة، الذين هوى بهم المركب إلى أعماق البحر.. أتمنى أن يكون صغيري من بين من عانوا أهوال الغرق دون أن يُمنحوا فرصة للسباحة فقط لأجد جثمانه.. وفى ظل غرقي في أفكارى تلك.. لمحت المركب قادمة من بعيد.. تلك المركب التي تحمل آخر دفعة من الجثث التي يحطيها ثلج من كل جانب.. وحينما حانت اللحظة التي انتظرتها منذ أيام.. حينما تفقدنا الجثث التي أفقدها البحر ملامحها.. خارت قواى عندما لمحت ملابسه التي ودعته بها منذ أيام.. ولم أستطع التحكم في صرخة صدرت منى وهزت كيانى.. صرخة باسمه التي سترافقه دومًا منذ هذه اللحظة جملة "الله يرحمه".