تردد كثيرا في الآونة الأخيرة مصطلح "الاستدامة"، أو "Sustainability"، وهو في مدلوله الظاهرى يعنى استمرارية الأشياء، ولكن جوهره أعمق بكثير، إنه يعنى السياسات التي تضمن "البقاء" لجميع جوانب الحياة التي نخشى نضوبها ونسعى للحيلولة دون نفادها. ويُخطئ البعض بقصر مفهوم الاستدامة على الأمور البيئية فحسب، لأن الاستمرارية ومبادئها تنطبق على كافة أنشطة الحياة من اقتصاد وعلوم وبيئة واجتماع مع اختلاف درجات تأثيرها. السبب وراء ربط كلمة الاستدامة بالعوامل والموارد البيئية فقط لأمرين الأول هو عدم الوعى الكافى بمدلول ومفهوم الاستدامة، وارتباط الإنسان منذ نشأته بالبيئة، والاعتقاد السائد بأن البيئة ما خُلقت إلا لخدمته وليفعل بها ما يشاء حتى إذا أدى ذلك إلى أعلى درجات التعدى عليها، بدأ ذلك مع الثورة الصناعية، واستمر حتى اليوم وإن تعددت الأشكال. ومن الأسباب الأخرى، أن بدايات طرح مصطلح الاستدامة في المجتمعات تناولت موضوع البيئة، وبالتحديد عام 1962، عندما نشرت العالمة راشيل كارلسون كتابها الشهير "الربيع الصامت" والذي كان بمثابة نقطة تحوّل في الفكر البشرى حيث مهد لظهور الاستدامة، ولكن ليس بمفهومها الشامل. سلطت كارلسون الضوء على آثار الثورة الصناعية على البيئة، ونتائجها السلبية مثل اختفاء أنواع كثيرة من الطيور نتيجة الاستخدام المفرط للأسمدة، وقالت مقولتها الشهيرة:" كم أخاف أن يأتى الربيع القادم صامتا بلا طيور تغرد في الغابة، وتعج الصحراء بالجراد، ويتشوه منظر النجوم والقمر". ولذلك يجب أن نتفق أولا أن مصطلح الاستدامة واسع النطاق، لا يقتصر على جزء بعينه ويمكن تطبيقه على كافة أوجه الحياة. على سبيل المثال، عندما توفر المؤسسات التدريبات اللازمة لتنمية وتعزيز مهارات الموظفين فهى بذلك تهدف إلى الحفاظ على الكفاءات واستدامتها بالمؤسسة، والذي بدوره يساهم في تحقيق نتائج إيجابية على صعيد الأداء العملى، وبالتالى الأرباح التجارية مع ضمان استدامتها. مثال آخر يبرهن على أهمية تطبيق مفهوم الاستدامة فيما يتعلق بالأمور الاجتماعية وهى المشروعات المرتبطة بالمسئولية المجتمعية للشركات، مثل تنمية العشوائيات وإصلاح الطرق وتوصيل شبكات المياه والصرف الصحى والكهرباء. فلا جدوى من مشروع يُنفذ ولا تتم متابعته باستمرارية فيتدهور، ومن هنا تبرز أهمية الاستدامة. أهمية "استدامة" المتابعة الدورية لضمان استمرار الأثر الإيجابى لهذه المشروعات على المجتمع والمواطنين. والسؤال الذي يجب طرحه، على من تقع مسئولية تطبيق الاستدامة؟ البعض يرى أن الاستدامة هي مسئولية الدول بكل أجهزتها الرسمية، في حين يرى البعض الأخر أنها مسئولية منظمات المجتمع المدنى وهناك فئة أخرى تعتقد أنها مسئولية المؤسسات الخاصة الكبرى ومنها بالطبع المؤسسات المالية بكافة أنواعها وعلى رأسها البنوك. في الحقيقة، الاستدامة هي مسئولية كل مواطن، سواء منفردا أو تابعا لمجموعة أو مؤسسة. ومن هذا المنطلق، وهناك العديد من المؤسسات والشركات طبقت فكر "الاستدامة" بنجاح كبير، فلا توجد مؤسسة منفردة تستطيع نشر فكر الاستدامة مهما بلغت قوة هذه المؤسسة، ولكن إذا قامت كل المؤسسات الكبرى والشركات بالتعاون مع منظمات المجتمع المدنى بتطبيق الاستدامة ونشر الفكر في المجتمع فمن المؤكد سيختلف الوضع كثيرا. الاستدامة في شموليتها يجب أن تبدأ من المجتمع بجميع فئاته، وأن يدرك الجميع أهميتها للمجتمع بشكل عام، وللفرد بشكل خاص، ذلك لأن الفرد هو المتحكم الأول في جميع الموارد المحيطة به، علما بأن الاستدامة تُبنى على ثلاث ركائز، وهى الاقتصاد، والمجتمع، والبيئة، ولا يستقيم الأمر إلا بمراعاة متغيراتها. تعتبر الطاقة على سبيل المثال المؤثر الأساسى في هذه الركائز والتي تدعم تطور الاقتصاد ورخاء المجتمعات من جهة، ولكنها تؤثر سلبًا على البيئة من جهة أخرى. ويعد ارتباط الطاقة بالفرد ارتباطًا وثيقًا، ولذلك خفض استهلاك الطاقة مسئولية عامة على كل أفراد المجتمع والمؤسسات كل بقدر استطاعته. وهناك العديد من المؤسسات المصرية التي بادرت بتعزيز قدراتها في التحول للطاقة النظيفة، وتم نشر هذه الثقافة في المجتمع فمن المؤكد النتائج ستكون مؤثرة سواء على المستوى الاقتصادى أو الاجتماعى أو البيئى، ويجب على الجميع التكاتف من أجل الحفاظ على البيئة وتنميتها وتطوير مواردها وإلا سيكون هناك خطر يهدد العالم. أول الأصوات التي نادت بأهمية تطبيق مفهوم الاستدامة عام 1983 حين اجتمعت اللجنة العلمية المعنيّة بالبيئة والتنمية برئاسة "غرو هارم برونتلاند" بناءً على طلب من الأممالمتحدة، ونتج عن هذا الاجتماع تقرير "مستقبلنا المشترك" والذي نُشر بعد الاجتماع بأربع سنوات لتصبح بذلك الوثيقة "الأم" للاستدامة، ومنها ظهر لأول مرة مصطلح الاستدامة للعامة، وبدأت الأفكار تنتشر وتتبناها المؤسسات والجمعيات. ومن الأفكار المستمدة من تقرير "مستقبلنا المشترك" أن البيئة والاستدامة ليست تحديات منفصلة ولكنها أهداف متصلة، حيث إن التنمية لا يمكن أن تكون على حساب تدهور الموارد البيئية، فالاقتصاد والبيئة يجب أن يتكاملا في عملية صناعة القرار وعمليات سن القوانين، خاصة وأنهما مرتبطان بعوامل اجتماعية وسياسية. الخلاصة من كل ما سبق أن الاستدامة تحقق احتياجاتنا في الحاضر، مع الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة في المستقبل، وبذلك فالثلاث محاور الأساسية للاستدامة هي "الإنسان" من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية، و"البيئة" في الحفاظ على الموارد الطبيعية ومحاولة إحيائها، و"التنمية الاقتصادية". في النهاية، لا يمكن أن نتعامل مع الاستدامة على إنها جزء منعزل عن الكل، ولكن علينا النظر بصورة أوسع وأشمل لرؤية باقى التفاعلات والقيم لأن هناك دائما عواقب غير مقصودة في كثير من الأحيان. ومن هنا تأتى ضرورة نشر الوعى وثقافة الاستدامة في المجتمع عن طريق المؤسسات والجمعيات، إلى جانب دور الدولة، والتواصل المستمر بين جميع دول العالم، فنحن لا نتحدث عن فكر تختص به دولة، ولكن الاستدامة تعنى الحفاظ على كوكب الأرض. جدير بالذكر أن المقال أعلاه قد تم نشره في مجلة "البنوك" عدد شهر يوليو الخاصه باتحاد بنوك مصر علي لسان هشام عز العرب رئيس اتحاد بنوك مصر.