من 8 شارع قصر النيل يفوح عبق التاريخ المصري في أربعينيات القرن الماضي، وهو تاريخ الباشاوات والعائلات الارستقراطية، والفنانين الكبار والأدباء والمثقفين والسياسيين، وقائع وأحداث كثيرة مرت على هذا العنوان، إنه عنوان مطعم ومقهى "حديقة الجريون" الذى أنشئ داخل ممر عمارة الخواجة "إيفيلينو" الشهيرة، والتي اشتراها منه فيما بعد الدكتور "بهي الدين شلش"- طبيب العيون- المعروف، والمطعم يتميز بديكورات متعددة الأفكار جعلت منه مكانا يهواه مختلف أطياف المجتمع. المطعم ارتبط منذ إنشائه فى أربعينيات القرن الماضى بوجود العائلات الأرستقراطية والطبقات الغنية والباشاوات فقط، وأصبح «الجريون» بالنسبة لهم المكان المخصص لسهراتهم، وحفلاتهم، ومناقشاتهم الاجتماعية، والتي كانت لا تخرج عن نطاق الترف، والثقافة، ولا تتطرق إلى السياسة ففي هذه الفترة كانت مصر تحت الحكم الملكي، ولم تكن هناك أحداث سياسية حقيقية على المستوى الداخلي، ولم يكن أحد من الطبقة المتوسطة أو الفقيرة يجرؤ علي المجيء للجريون لأنه لن يتوافق فكريا أو اجتماعيا مع الطبقات الغنية التي ترتاد المكان. ومن أشهر زبائن الجريون- في هذه الفترة- كبار الفنانين امثال محمد عبدالوهاب، وزوجته إقبال نصار، وفريد الأطرش، وعبدالسلام النابلسي حتى أن أم كلثوم كانت تأتي المطعم أثناء الحفلة التى كانت تقيمها فى أول كل شهر، وتستريح فيه بين الأغاني التي كانت تقدمها على مسرح قصر النيل الملاصق لمطعم الجريون. ويحكي "سهيل العاني" -مدير مطعم الجريون- قصة طريفة نقلت إليه عن سابقه في المكان، أن عبدالوهاب حينما كان يأتي الجريون ويطلب فاكهة كان يطلب معها "جردلا" من الماء كي يقوم بتنظيفها مرة أخرى بنفسه لأنه كان يعاني وسواس التلوث والمرض بشكل كبير، أيضا قصة أخرى عن فريد الأطرش الذي فاجأته أزمة قلبية بالمطعم وتم نقله إلى المستشفي. وظل المطعم على هذه الحال حتى قامت ثورة يوليو عام 1952، وبدأت سياسة الدولة تتجه بزعامة عبدالناصر نحو الاشتراكية، والانحياز للطبقة الفقيرة على حساب الطبقة الارستقراطية والباشاوات، فتأثر الجريون أيضا بهذا الأمر وقل إقبال الارستقراطيين عليه، وهمش لصالح مقاهي الشارع مثل "ريش والبستان"، وغيرها، لظهور طبقة المثقفين وعلو صوت الاشتراكيين في ذلك الوقت، والذين كانوا لايحبون إلا الجلوس على المقاهي، وفي المقابل اختفت طبقة الأغنياء وأصبحت حفلاتهم تقام في بيوتهم، وليس في المطاعم التي اعتادوا السهر فيها مثل الجريون. أصبح الجو العام في الجريون كئيبا منذ ثورة يوليو– على حد قول سهيل– بعد أن كان يستمد روحه من حفلات ونقاشات الباشاوات والارستقراطيين، ولظهور نوع جديد من السياسة انتهجه عبدالناصر إلى أن اختفى تماما بعد هزيمة 1967، حتى أن الأغنياء القلائل الذين كانوا يأتون الجريون أصبحوا لايترددون عليه بسبب الحالة الأمنية التي فرضها أمن الدولة على جميع المناطق، خاصة وسط البلد والتي سلبت روح المكان وجعلته بصفات أخرى غير التي كان عليها وقت الملكية. ولم تتغير حال الجريون في بدايات سنوات حكم السادات لاستمرار نفس سياسة عبدالناصر، وسيطرة الاتحاد الاشتراكي على مجريات الأمور، وكانت مقاهي الشارع هي التي تحظى بتردد المعارضين عليها من الشعراء، والأدباء، أمثال أمل دنقل، ويوسف إدريس، ونجيب سرور، وكذلك القوى اليسارية، أمثال: خالد محيي الدين، ورفعت السعيد، وحسين عبدالرازق، وغيرهم، وكذلك القوى الطلابية، مثل: أحمد بهاء شعبان وعبدالله رزة، وزين العابدين، وغيرهم، وشهد الجريون كأي مكان في مصر في 6 أكتوبر 1973 فرحة عارمة واحتفالات بالنصر. وبدأ المطعم يستعيد صفاته الأولى التي كان عليها فى الأربعينيات، بعد الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات، وظهور طبقة رجال الأعمال والأغنياء، وسيطرتهم مرة أخرى على سياسات الدولة، فبدأ توافد هؤلاء على الجريون، إلا أن صوت مقهى "ريش" كان هو الأعلى، لأنه كان الأكثر استقبالا لشخصيات المعارضة الأعلى صوتا في ذلك الوقت، والتي كان لها دور بارز في الأحداث السياسية في فترة السبعينيات. ويشير «سهيل» إلى أنه تم إغلاق مطعم الجريون في أواخر السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات فالمطعم كان مملوكا للسفير «سميح زايد» ولم يتمكن من إدارته، فأغلق قرابة الخمس سنوات، ثم عاد للعمل مرة أخرى في ظل حالة الاستقرار السياسي، خصوصا مع انخفاض صوت المعارضة الحادة التي كانت موجودة وقت السادات، وسار عمله بشكل طبيعي وكان يتوافد عليه اليساريون، والصحفيون، والأدباء، وكان ملتقى للنقاش السياسي، لكن المناقشات لم تخرج عن حدود ما يقال في الإعلام والصحف، ولم تشهد عنفاً أو خروجاً عن المألوف، فتحول الجريون في عهد مبارك إلى ملتقى ثقافي للشخصيات العامة والسياسية، والمثقفة، وكذلك الفنانين في تلك الفترة، فكان يرتاده قيادات حزب التجمع، لأن مقر الحزب يقع بجوار المطعم، وكذلك أبوالعز الحريري، وأيمن نور، وجميلة إسماعيل، وبثينة كامل، وحمدين صباحي، والنشطاء السياسيون، امثال: ممدوح حمزة وخالد تليمة وطارق الخولي وزياد العليمي، ومن الإعلاميين والصحفيين وائل الإبراشي وإبراهيم عيسى وأسامة سرايا وطارق حسن وحمدي رزق الذي كتب مقالاً في جريدة «المصري اليوم» لجمال مبارك بعنوان «جمال مبارك في الجريون»، وكان يدعوه فيها أن يترك البيزنس ورجال الأعمال، وأن يذهب للمطعم ويجلس مع طبقة المثقفين والمفكرين عله تتغير حاله، ومن الشعراء والأدباء: أحمد فؤاد نجم وسليمان فياض اللذين لهما كتابات على جدران المطعم، وكذلك إبراهيم منصور، وجماعة نجيب محفوظ التي كانت تذهب له على مقهى علاء الدين ثم تعود مرة أخرى للجريون مؤكدا أن العديد من كتب ومؤلفات هؤلاء خرجت من هذا المكان. أيضا تردد كبار الفنانين على الجريون فكانوا يحلون عليه "زبائن" بعد عروضهم المسرحية وحفلات أفلامهم، مثل: عادل إمام ويحيي الفخراني ومحمود عبدالعزيز ويسرا ومحمود حميدة وسميحة أيوب وأحمد عبدالعزيز ورغدة وسوسن بدر وحمدي الوزير الذي يعتبر زبوناً دائماً للمكان هو ونيللي وعلي الحجار ومدحت صالح ومحمد الحلو ومحمد منير، وكذلك المخرجون مثل مجدي أحمد علي وخيري بشارة ورضوان الكاشف ومحمد خان، حتى أن الجريون شهد على خروج أفلام ومسلسلات للسينما والتليفزيون مثل فيلمي «استاكوزا» و«كابوريا»، وكان أحمد زكي يراجع السيناريو بالمطعم مع عبدالحي أديب، وأيضا شهد المكان خروج فيلمي «الكيت كات» و«عصافير النيل» وغيرها من الأفلام. ويذكر «سهيل» أنه تم إغلاق «الجريون» وقت الثورة من 25 يناير 2011 وحتى 18 فبراير، ثم فتح أبوابه ثم أغلق لمدة أسبوعين مرة أخرى بسبب الانفلات الأمني ووقوع المطعم وسط منطقة حساسة تتأثر بأي أحداث سياسية، وهذا ما تسبب في خسائر للمطعم وتخفيض العمالة به.