قرأ مع العمالقة رفعت وعلى محمود والعيساوي وندا في مولد الحسين العراقيون استقبلوه كالملوك وقرأ فى الحرمين المكي والنبوى كون فرقة إنشادية ضمت زكريا أحمد الشيخ "عبد الفتاح الشعشاعى" .. واحد من أوائل القراء الذين حملوا أمانة تلاوة القرآن الكريم بصوت جميل محبب لدى مستمعيه، حيث كانت له طريقته الخاصة فى الأداء أحبها الناس، فكانوا يهيمون طرباً مع الآيات القرآنية عندما يستمعون إلى ذلك الصوت الذى كانوا يصفونه بالصوت الصداح القادم من السماء. الشعشاعى من مواليد قرية "شعشاع" بالمنوفية في 21 مارس عام 1890م ، ووالده الشيخ "محمود إبراهيم الشعشاعى" وسميت القرية باسم جده شعشاع . حفظ القرآن على يد والده الشيخ محمود الشعشاع فى عشر سنوات ، حيث أتم حفظه عام 1900م . سافر عبد الفتاح الشعشاعى إلى طنطا لطلب العلم من المسجد الأحمدي وتعلم التجويد وأصول المد ولتفوق الشيخ وتميزه بصوت عذب فقد نصحه المشايخ بالسفر إلى القاهرة والالتحاق بالأزهر الشريف ودرس هناك القراءات على يد الشيخ بيومي والشيخ علي سبيع. ثم عاد إلى قريته وبين جوانحه إصرار عنيد على العودة إلى القاهرة مرة أخرى ليشق طريقه فى زحام العباقرة نحو القمة، وكان في القاهرة حشد هائل من عباقرة التلاوة ، وعندما بدأ الشيخ رحلته إلى القاهرة كان أشد المتفائلين يشك أن الشيخ الشاب سينجح حتى في كسب عيشه. وكون الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي فرقة للتواشيح الدينية وكان في بطانته الشيخ زكريا أحمد الملحن العبقري والذي ذاع صيته فيما بعد وسرعان ما بدأ الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي يتألق ويلمع وأصبح له عشاق بالألوف. ولكن فرقة التواشيح لم تكن ترضي طموح الشيخ الشعشاعي فغامر وألقى بنفسه في البحر الذي يتصارع فيه العمالقة. ذات مساء دخل ليقرأ في الليلة الختامية لمولد الإمام الحسين (رضي الله عنه) مع أعظم وأنبغ المقرئين في بداية القرن العشرين أمثال الشيخ محمد رفعت والشيخ أحمد ندا والشيخ علي محمود والشيخ العيساوي والشيخ محمد جاد الله. ومن تلك الليلة انطلق صوت الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي إلى العالم الإسلامي وأصبح له مكان فى القمة وأصبح له مريدون وتلاميذ ومنهم الشيخ محمود علي البنا والشيخ أبو العينين شعيشع وغيرهما كثير. منذ سنة 1930 تفرغ الشيخ لتلاوة القرآن الكريم وترك التواشيح إلى غير رجعة ،ومع ذلك لم ينس رفاقه في الدرب فقرر تخصيص رواتب شهرية لهم حتى وفاتهم. وبعد افتتاح الإذاعة عام 1936 بدأ نجم الشيخ يتلألأ على أنه رفض التلاوة في الإذاعة في أول الأمر خشية أن تكون التلاوة في الإذاعة من المحرمات لكنه تراجع عن ذلك القرار بعد فتوى شيخ الأزهر الظواهري وقبول الشيخ رفعت لعرض الإذاعة. وكان يتقاضى راتبا سنويا قدره 500 جنيه. وكان للشيخ عبد الفتاح الشعشاعي طريقة خاصة ومتميزة عن طرق بقية القراء ، فقد كان يستمع إلى أصوات الشيخ رفعت وعلي محمود وكان يصفهم بأنهم أساتذة وعمالقة لا يتكررون ويعتبرهم مدارس ووصف مدرسة رفعت بأنها مدرسة انتهت ولن تتكرر. وعن رحلته الأولى للعراق قال الشيخ أبو العينين شعيشع:"جاءتنى دعوة عاجلة من السفير العراقى بالقاهرة لإحياء مأتم الملكة (عالية) بناء على رغبة من القصر الملكى الذى أرسل إلى السفارة بطلب القارئ الشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ مصطفى إسماعيل ، فوافقت وبحثت عن الشيخ مصطفى إسماعيل كثيراً فلم أجده ، والوقت لا يسمح بالتأخير فاتصلت بالسفير العراقى وأخبرته بصعوبة العثور على الشيخ إسماعيل اليوم ، فقال السفير اختر قارئاً من القراء الكبار معك فاخترت المرحوم الشيخ «عبد الفتاح الشعشاعى» وقام فؤاد سراج الدين وزير الداخلية آنذاك بتسهيل الإجراءات وأنهينا إجراءات السفر بسرعة ووصلنا مطار بغداد وإذ بمفاجأة لم نتوقعها .. استقبال رسمى لنا بالمطار كاستقبال الملوك والرؤساء ، ولكن المفاجأة أصبحت مفاجأتين قالوا "وين الشيخ مصطفى؟" فقلت لهم :إنه غير موجود بالقاهرة ولم نعرف مكانه والوقت كان ضيقاً فأحضرت معى فضيلة الشيخ عبد الفتاح الشعاعى وهو أستاذنا ومن مشاهير قراء مصر وشيخ القراء، وفوجئت بأن وجه الشيخ الشعشاعى تغير تماماً وظهرت عليه علامات الغضب لأنه كان يعتز بنفسه جداً وقال "لو كنت قلت لى ونحن بالقاهرة أننى لست مطلوباً بالاسم من القصر ما كنت وافقت أبداً ، ولكنني الآن سأعود إلى القاهرة".. كل هذا كان فى مطار بغداد ، وأصر الشيخ عبد الفتاح الشعشاعى على العودة إلى مصر وبمساعدة المسئولين العراقيين استطعنا أن نثنى الشيخ عن قراره الصعب وخرجنا من المطار وسط جمهور محتشد لاستقبالنا لا حصر له ونزلنا بأكبر فنادق بغداد واسترحنا بعض الوقت ، ثم توجهنا بعد ذلك إلى القصر وكانت الليلة الأولى على مستوى الملوك والرؤساء والأمراء والثانية على مستوى كبار رجال الدولة والضيوف ، والثالثة على المستوى الشعبى ، ووفقنا فى الليلة الأولى ولكن آثر الموقف ما زال عالقاً بكيان الشيخ عبد الفتاح الشعشاعى ، فلما رجعنا إلى مقر الإقامة بالفندق قال لى الشيخ :"أنا انتظرت الليلة علشان خاطرك وباكراً سأتجه إلى القاهرة فحاولت أن أقنعه ولكنه كان مصراً إصراراً لم أره على أحد من قبل ، فقلت له نم يا شيخنا وفى الصباح تسافر أو كما تحب ، وقضيت الليل فى التفكير كيف أثنى الشيخ الشعشاعى عن قراره؟ جاءتني فكرة وذهبت إليه فى الجناح المقيم به بالفندق، وقلت له "هل يرضيك أن يقال عنك إنك ذهبت إلى العراق لإحياء مأتم الملكة ورجعت لأنك لم توفق فى القراءة وإنك لم تعجب العراقيين؟ فسكت لحظات ونظر إلى وربت على كتفى بحنان الأبوة وسماحة أهل القرآن وقال لى :«يا أبو العينين كيف يصدر هذا التفكير منك رغم حداثة سنك وأنا أكبرك سناً ولم أفكر مثل تفكيرك؟ ووافق على البقاء لاستكمال العزاء ومدة الدعوة التى كان مقرراً لها سبعة أيام ، وقرأ فى المساء وكأنه فى الجنة وتجلى عليه ربنا وكان موفقاً توفيقاً لا حدود له. ثم عاد إلى الفندق فى حالة نفسية ممتازة وفى نهاية الأسبوع حصلنا على وسام الرافدين وبعض الهدايا التذكارية، وودعنا المسئولون بالبلاط الملكى العراقى كما استقبلونا رسمياً، وبعد تلك الزيارة وهى الأولى للعراق أحبه العراقيون وأصبحت له شهرة واسعة في العراق وأصبح من قراء الإذاعة العراقية الأوائل، وقد تكررت زيارات الشيخ الشعشاعى للعراق مرات عدة منذ ذلك الوقت وحتى آخر عام من وفاته ... ويعتبر الشيخ عبد الفتاح الشعشاعى أول من تلا القرآن الكريم بمكبرات الصوت فى مكة والمسجد النبوى ووقفة عرفات منذ عام 1948م . وقد توفى الشيخ "عبد الفتاح الشعشاعى" فى 11 نوفمبر عام 1962م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عاماً قضاها فى خدمة القرآن الكريم ، وقد سار ابنه إبراهيم الشعشاعي على دربه فتألق وجابت شهرته الآفاق وكان القارئ المعتمد بمسجد السيدة زينب رضي الله تعالى عنها وأرضاها فكان المصلون يتوافدون على المسجد منذ العاشرة صباحا انتظارا لقراءة الشيخ إبراهيم قبل صلاة الجمعة. رحم الله الشيخان عبد الفتاح وإبراهيم الشعشاعى.