"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ" الحج 1،2. هناك أهوال كثيرة تواجه الإنسان يوم القيامة، مشاهد فزع وهلع، فجميع خلق الله من البشر والحيوانات والوحوش كلهم محشورون في صعيد واحد، حتى جهنم في حالة من الغضب الشديد تزمجر وتأتي على الناس مهرولة فتأخذ منهم ما تشاء بغير حساب. أهوال وعن أهوال يوم القيامة يقول العلماء: "في ذلك اليوم تندك الأرض وتسير الجبال وتشتد الأمور وتعظم الأهوال، وينزل للقضاء بين عباده الحكم العدل المتعال، وتحشرون حافية أقدامكم عارية أجسامكم شاخصة أبصاركم واجفة قلوبكم، في ذلك اليوم يجمع الله الأولين والآخرين من الإنس والجن والدواب في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، في ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، في ذلك اليوم يقبض الله الأرض بيده ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون". وأضاف العلماء: "في ذلك اليوم تدنو الشمس من رءوس الخلائق حتى تكون قدر ميل فيعرق الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه ومنهم من يبلغ إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا، فعند ذلك يبلغهم من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم". ويذكر العلماء أنه في ذلك الوقت العصيب يذهب البشر إلى آدم فيعتذر، ويقول: اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح، فيأتون فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيذهبون إلى موسى فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيذهبون إلى عيسى فيعتذر، ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون نبي الله محمدًا، فيشفع في الناس ليقضي بينهم، وهذا من المقام المحمود الذي وعده الله في قوله: "عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" الإسراء 79. العرض ويؤكد علماء الدين الإسلامي أن الحساب يوم القيامة نوعان: الأول حساب عرض، ويخص المؤمن، يُسأل عن عمله وعلمه ونعمة الله التي منّ بها عليه، فيجيب بما يشرح صدره ويثبت حجته ويديم نعمة الله عليه، وإذا عرضت عليه ذنوبه أقر بها فيسترها الله عليه ويتجاوز عنه. وفي هذا العرض لا يناقش الحساب ولا يدقق عليه ولا يحقق معه، ويأخذ كتابه بيمينه، وينقلب إلى أهله في الجنة مسرورًا؛ لأنه نجا من العذاب وفاز بالثواب، وروى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ"، قَالَتْ قُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا"؟ قَالَ ذَلِكِ الْعَرْضُ. وقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَى قَوْله "إِنَّمَا ذَلِك الْعَرْضُ" أَنَّ الْحِسَابَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ أَنْ تُعْرَضَ أَعْمَالُ الْمُؤْمِنِ عَلَيْهِ، حَتَّى يَعْرِفَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي سَتْرِهَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي عَفْوِهِ عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ". وروى أحمد عن عَائِشَةَ قالت: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ فَقَالَ: "الرَّجُلُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ ثُمَّ يُتَجَاوَزُ لَهُ عَنْهَا إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ". صححه الألباني في "ظلال الجنة". وقد روى البخاري ومسلم عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُون وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ". مناقشة أما النوع الثاني فهو حساب مناقشة، وهذا حساب الله للكفار، ومن شاء من عصاة الموحدين، وقد يطول حسابهم ويعسر بحسب كثرة ذنوبهم. وهؤلاء العصاة من الموحدين يدخل الله منهم النار من شاء إلى أمد، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة إلى الأبد. وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ؟" قَالُوا لَا، قَالَ: "فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ؟" قَالُوا:لَا، قَالَ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا". قَالَ "فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ بَلَى قَالَ فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا،فَيَقُولُ فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فَيَقُولُ أَيْ فُلْ، أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَ؟ فَيَقُولُ: لَا،فَيَقُولُ:فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ هَاهُنَا إِذًا قَالَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ". واختلف العلماء في قوله: "لتسألن يومئذ عن النعيم" إذا ما كان المراد الكافر أو المؤمن، وأكدوا أن المراد به المؤمن والكافر، كل يسأل عن النعيم، لكن الكافر يسأل سؤال توبيخ وتقريع، والمؤمن يسأل سؤال تذكير بنعمة الله عز وجل عليه، حتى يفرح ويعلم أن الذي أنعم عليه في الدنيا، تكرم عليهم بنعمته في الآخرة. الميزان أما الميزان فينصب في ختام يوم القيامة لتوزن عليه أعمال العباد جميعًا، يقول القرطبي: "وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأنّ الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإنّ المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها". ودلّت النّصوص على أنّ هذا الميزان هو ميزان حقيقيّ، لا يعلم ماهيته إلا الله تعالى، فقد روى الحاكم عن سلمان عن النّبي، صلّى الله عليه وسلّم، قال: "يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السّماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك". وهذا الميزان دقيق، فلا يزيد ولا ينقص، قال تعالى: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" الأنبياء 47.