سيدة من طراز فريد، تاريخها النضالي لا يقل إبهارًا وتأثيرًا عن نضال هدى شعراوي وصفية زغلول، رغم انحدارها من عائلة ميسورة الحال، فإنها اعتنقت فكرًا اشتراكيًا، وعاشت طيلة حياتها تدافع عن الفقراء والمعدومين، حملت هموم الفلاحين وأوجاعهم، وآمنت بالعدالة الاجتماعية، وإذابة الفجوة بين الطبقات، ذاقت صنوف التضييق والملاحقة، وتعرضت للاعتقال والنفي داخل مصر، رغم ذلك لم تتوانَ عن نصرة الفقراء إلى الرمق الأخير من حياتها. عائلة ميسورة المناضلة اليسارية شاهندة مقلد، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، التي وافقتها المنية مساء اليوم الخميس الموافق 2 يونيو عن عمرًا ناهز ال78 عامًا بالمركز الطبي العالمي بعد صراع طويل مع المرض، تنحدر من أسرة وطنية عريقة بقرية كمشيش الباسلة بمركز تلا التابع لمحافظة المنوفية، فوالدها كان ضابطًا في الشرطة ومن أنصار حزب «الوفد»، وكان رجلًا وطنيًا ليبراليًّا، يحب الفن والموسيقى، وكان يعزف أحيانًا على آلة العود في منزله بعد عودته من عمله. تبلور فكرها الاشتراكي عاشت الفتاة القروية في «كمشيش» حياة تقليدية في ظل وضع اجتماعي عُرف بالتفاوت الطبقي منذ قرون طويلة، إلا أنها حاولت أن تخرج عن المألوف، وتتحرر من عباءة الأيديولوجية الفكرية لأبيها، وبدأت تقرأ في سن مبكرة كتبًا ذات طابع اشتراكي، وحتى ماركسي، فحدث التحول الفكري الأول في صيرورتها، وبدت مستعدة نفسيًا لتقبل الأفكار المغايرة والغريبة، ربما على البيئة المصرية في منطقة الدلتا المترامية، ويبدو أن هذا الفكر المنهجي الاشتراكي الماركسي، وفي طابعه التطبيقي الثوري، ازداد رسوخًا وقوة بعد ظهور زوجها المستقبلي وابن خالتها صلاح حسين، الذي كان اشتراكيًا ماركسيًّا، التحق بصفوف المقاتلين العرب في أثناء حرب عام 1948 في فلسطين. محاربة الإقطاع دعمت شاهندة مقلد الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ل"عبد الناصر"، وخاضت هي وزوجها صراعًا مريرًا مع بقايا الإقطاع في مصر والذي لم تقضِ عليه إصلاحات الرئيس جمال عبد الناصر بتوزيع الأراضي على الفلاحين الأُجَراء المحرومين، وركزت في صراعها مع الإقطاع على أسرة "صلاح الفقي"، رمز الإقطاع والظلم في قريتهما. وتطورت المواجهة بين أنصار الفلاحين والإقطاعيين بعدما أرسل زوجها خطابًا للرئيس جمال عبد الناصر لإنشاء مستشفى عام ومركز ثقافي داخل مبنى عائلة الفقي بعد تأميمها، إلا أن الأحداث انتهت بمقتل صلاح حسين في الرابع أبريل عام 1966 بعد أسابيع من إنجاب شاهندة لابنتها بسمة، فهرعت الأرملة ذات السبعة والعشرين عامًا إلى مكان الحادث، وشاركت في تشييع جنازة زوجها القتيل، متوعدة بمواصلة نضاله من أجل الفلاحين. لقاء سارتر وحظيت حادثة اغتيال زوج "مقلد" باهتمام كبير داخل مصر وخارجها، وتناقلت الصحف العالمية حادث قرية كمشيش، وبعدما اطلع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على هذه الوقائع قرر مع سيمون دي بوفوار زيارة قرية كمشيش ومقابلة المناضلة اليسارية. تحية جيفارا وشاءت المصادفة أيضًا أن تلتقي شاهندة مقلد بأشهر مناضل ثوري عرفه التاريخ الحديث، وهو أرنستو تشي جيفارا، وقد حدث اللقاء على النحو التالي: «كان عبد الناصر يرافق جيفارا ليُطلعه على إنجازات "ثورة يوليو"، فدُعي الاثنان لتناول طعام الغداء في منزل السادات بقرية ميت أبو الكوم المجاورة لكمشيش، لينتهي برنامج زيارة الثائر العالمي بمؤتمر يعقد في قرية بشبين الكوم، وكان على الموكب أن يمر بقرية كمشيش المجاورة، فاستغلت شاهندة مقلد الفرصة وأحضرت مع عدد من الفلاحين المتعلمين لافتة ووقفوا على جسر في طريق الموكب كتب عليها: "نحن معزولون عنك منذ سنوات يا جمال عبد الناصر، وممنوعون من الكلام معك، ونحن نمثل هنا قرية ثورية ونقف إلى جانبك"، وعندما توقفت سيارة عبد الناصر عند الجسر هتفت المناضبة "نريد أن نتحدث إليك يا عبد الناصر"، وبعدما اقتربت "شاهندة" من سيارته المكشوفة رأت جيفارا يجلس إلى جانبه، وصافحت شاهندة عبد الناصر وضيفه، وسملت رسالة الفلاحين إلى الرئيس، ثم خاطبت جيفارا بالقول: "نحن فلاحو قرية كمشيش، وهم سكان القرية الثورية"، وبعدما ترجم كلامها إلى جيفارا هب واقفًا ورفع قبضته تحيةً لها، فأطلق الفلاحون عاصفة من الهتافات والتصفيق دون أن يعرفوا هوية الضيف الثوري الأسطوري». فقدان الابن والأخ بيد أن السيرة الذاتية لشاهندة مقلد اتخذت منحى أكثر مأساوية من ذي قبل، بعد استشهاد شقيقها في حرب الاستنزاف مع إسرائيل في عام 1970 وكان طيارًا، ومقتل ابنها الأصغر في ظروف غامضة بالعاصمة الروسية موسكو حيث كان يقيم، هذه الواقعة المأساوية لم تثنِ شاهندة مقلد من مواصلة نضالها من أجل قضية الفلاحين ومحاربة الإقطاع، مستلهمة هذه المرة روح التضحية والشجاعة التي أظهرها زوجها القتيل، فكتب على الأرملة والأم الثكلي أن تخوض الصراع بمفردها، وتربي أبناءها في الوقت نفسه، وذلك بإمكانات مالية شحيحة، وفي ظل ظروف صعبة، وخضوعها إلى الإقامة الجبرية أو السجن، ولاسيما في عهد الرئيس أنور السادات. إحباط نظام مبارك انتقدت "مقلد" نظام مبارك، ونددت بعواقب زواج رأس المال بالسلطة، بل إنها عانت في السنوات الثلاثة الأخيرة قبيل ثورة يناير من حالة إحباط، هاجمت فيه أداء حزب التجمع الذي انتمت له قائلة "إن سياسية بلا وطن"، إلى أن جاءت ثورة 25 يناير التي حررتها من عزلتها وسباتها ويأسها. التنديد بحكم الإخوان كانت المناضلة الراحلة أو المهاجمين لحكم الإخوان، وتحديدًا بعد إصدار الإعلان الدستوري المكمل، إذ هبت «رئيسة اتحاد الفلاحين» وقتئذ ومجموعة من السيدات والفتيات إلى قصر الاتحادية، حيث يوجد الرئيس المعزول محمد مرسي، في مسيرة سلمية خالصة، لتتفاجأ باعتداء أحد الموالين لجماعة الإخوان عليها بتكميم فمها للسكوت عن الهتاف، وظلت تطالب برحيل حكم الإخوان إلى أن رحل بالفعل. 6 عقود من النضال والتضحية قضتها تلك السيدة الصامدة التي أفنت جلَّ حياتها في محاربة الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي للمرأة المصرية والعربية بشكل عام، لتلخص سنوات نضالها بمقولة «إن الثورة ليس إلا بداية جديدة في طريق لن ينتهي»، وتذكرنا مسيرة الراحلة بأون سان سو تشي، زعيمة المعارضة في بورما، التي حصلت من مجلس النواب الأمريكي على أرفع ميدالياته.