حين تلوح في الأفق نسائم الربيع معلنًة انتهاء فصل الشتاء، يستعد أبناء القبائل البدوية ل«النجيع» أو «الرحلة المباركة»، التي يغادرون فيها مساكنهم بالمدن ويعودون إلى العيش داخل الصحراء لمدة 3 أشهر، سائرين في ذلك على خطى الآباء والأجداد، بحثًا عن كلأ يملأ بطون الماشية، وصفاء يعيد إلى النفوس الطمأنينة والسكون. «النجيع».. رحلة يغوص خلالها أبناء قبائل البدو من محافظة جنوبسيناء، داخل السهول والوديان الصحراوية، عائدين بأجسادهم وأرواحهم إلى العهود القديمة حين كان الأباء والأجداد يتنقلون في معيشتهم بحثًا عن المرعى. «هذا ما وجدنا عليه آباءنا ونحن على النهج سائرون».. بهذه الكلمات بدأ حسين موسى حضير، أحد مشايخ البدو بمحافظة جنوبسيناء، حديثه عن رحلة «النجيع»، مؤكدًا أن البدو يعتبرونها من العادات والتقاليد التي لا يمكن إهمالها لأنها تحيى في نفوسهم ميراث الأولين وتدعو النشء الجديد إلى التمسك بالقيم والأخلاق الحميدة التي خلفها السابقون. «حضير» أضاف بقوله: التوقيت الحقيقى لبداية هذه الرحلة يكون في أوائل شهر مارس من كل عام حين يرحل واحد من الخبراء بدروب الصحراء بمفرده ليتفحص السهول والوديان التي أغرقتها مياه الأمطار، ويحدد المراعى الأكثر غزارة بالأعشاب والتي تصلح لأن تكون موطنًا مؤقتًا يشبع الأغنام والماعز والإبل لمدة 10 أيام، قبل الانتقال إلى مرعى آخر، ثم يعود بعد 15 يومًا ليصحب أفراد القبيلة معه الذين يحملون معهم كل ما يملكون في هذه الدنيا عدا الطعام. ول«النجيع» طقوس يفرضها الموروث التاريخى على جميع البدو – هذا ما أوضحه الشيخ موسى – حيث تبدأ الرحلة الجماعية للعودة إلى التنقل داخل الصحراء، من منتصف شهر مارس وتنتهى في أواخر شهر مايو من كل عام، ويحرص مشايخ البدو خلالها أن يكون سير أفراد القبيلة ليلًا والبقاء داخل الخيام المصنوعة من صوف الأغنام نهارًا، لأن في هذا حماية للجميع من أخطار التعرض لأشعة الشمس المحرقة. الشيخ حضير، أكد أيضا أن «عودة البدوى إلى معيشته الأولى داخل الصحراء وممارسة الحياة البدائية له عدة أهداف، منها: البحث عن المرعى للأغنام والماعز والإبل وهو ما يحدث انتعاشة اقتصادية داخل المجتمع البدوى الذي تعد رءوس الماشية ثروته الحقيقية، ومن جانب آخر فإن التنقل داخل السهول والوديان الصحراوية لمدة تقارب الثلاثة أشهر تنعش النفوس وتعيد إلى الأذهان صفاءها، كما أن التأمل في جمال الطبيعة يأتى على رأس أولويات هذه الرحلة لأن الأجداد كانوا يوصون بالاستسلام لهمس الطبيعة، ويقولون إن الشخص يصبح حكيمًا إذا أجاد قلبه الاستماع إلى حديث الصمت». وفيما يتعلق بدور النساء في «الرحلة المباركة» أوضح الشيخ موسى أنه شديد الأهمية، وأكمل بقوله: عليهن أكثر الأدوار مشقة خلال شهور «النجيع» الثلاثة، حيث توكل إليهن مهمة رعى الماشية، والاستيقاظ مبكرًا من أجل حلب الأغنام والماعز والنياق، ثم يطعمن الأطفال والرجال ويجمعن ما تبقى من الألبان ليقمن ب«خضه» - عملية تشبه البسترة – لمدة ساعة داخل «السعن» - شيء يشبه قربة الماء ويصنع من جلود الماعز - وتحويله إلى زبدة وجبن وحليب رايب، وهو مخزون إستراتيجى من الطعام الذي يأكل منه أفراد القبيلة طوال شهور رحلتهم، فمن طقوس «النجيع» أن يخرج الجميع بدون طعام وينتظرون ما تفيض به الطبيعة عليهم من خيرات، والحكمة من هذا التدرب على تحمل المسئولية أثناء أشد الظروف قسوة، والإحساس بقيمة النعمة والرضا بما قسمه الله للعبد. أما ليالى «النجيع» التي تمتد على مدى الثلاثة أشهر، فقد أشار الشيخ حضير إلى أنها «ترسخ الأصالة في النفوس»، مؤكدًا أن هناك جلسات متواصلة من السمر تبدأ بتناول العشاء البدوى والذي يسمى ب«الزرب» - اللحوم المدفونة في الرمال، ثم الاستمتاع بشراب القهوة على «الركية» - موقد من النار يصنع داخل حفرة من الرمال – والشاى المحلى بالمرمرية. وبعد تناول العشاء وشرب القهوة والشاى – والحديث ما زال للشيخ موسى – يبدأ أكبر الرجال سنًا في سرد تاريخ البدو ويعرج على قدسية أرض سيناء وتشريفها بسير الأنبياء والرسل فوق رمالها، وهو ما يبعث داخل النفوس قدسية من نوع خاص ويشعر الحاضرون أنهم في رحلة مباركة، كما تتخلل هذه الجلسات رقصة «الدبكة» التي يتفرد بها البدو، حيث يصطف الجميع في دائرة ويرقصون على الأشعار والألحان البدوية. الشيخ موسى حضير اختتم حديثه قائلًا: في ظل ما تشهده وديان ومدن سيناء من تطوير وتوغل لوسائل التكنولوجيا الحديثة أصبحت هناك أصوات من الشباب تنادى باقتصار «النجيع»، على أحاديث السمر وسردها للأجيال القادمة على أنها كانت حياة الأجداد، وهو الشيء الذي يرفضه شيوخ القبائل ويصرون على الخروج إلى الصحراء كل عام عند نهاية الشتاء وبداية الربيع.