سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«فيتو» تزور مستعمرة «الجذام».. تم إنشاؤها بقرار من الملك فاروق والحكومات المتعاقبة اغتصبت نصفها.. الأطباء يرفضون العمل وأغلب نزلائها من الصعيد.. والمرضى: «لن نخرج من هنا إلا للمقابر»
"منفى الأحياء" هكذا يطلق المرضى على "مستعمرة الجذام بأبو زعبل" التي تقع بمدينة الخانكة بمحافظة القليوبية، هذا المكان البعيد الذي يقع وسط الصحراء بقاطنيه يعتبر عالما غريبا وفريدا من نوعه له عاداته وتقاليده وأصوله، ولذلك قصة فمنذ ما يقرب من 85 عامًا تقريبا ظهر مرض غريب بالجلد في القاهرة يحدث تشوهات للمصابين به ويغير ملامحهم ويفقدهم القدرة على الشعور والاحساس وهو ما قد يؤدى إلى مضاعفات عديدة ببتر الأيدى والارجل وأحيانا الإصابة بالعمى وهو مرض معد ينتقل عن طريق الأنف فقرر الملك فاروق حاكم مصر أنذاك وتحديدا في عام 1933 م، أن يقيم وينشئ في وسط الصحراء وفى مكان بعيد عن العمران مكانًا منعزلًا تماما بعيدا عن الكثافات السكانية، لتجميع جميع مرضى «الجذام» به، وأصبح إحضار المرضى إليه بالقوة الجبرية. حاول الملك إضفاء نوع من المعايشة والتكيف النفسى على المرضى بزراعة حديقة كبيرة ليعمل هؤلاء "العزل" بها ويدرون من ورائها عائدًا ماديًا مناسبًا يعينهم على سبل المعيشة،ومع تطور الحياة وتعاقب الزمن والبشر لم يتغير فكر المواطن حول النظرة غيرالآدمية للمريض وفكرة الخوف منه ونبذهم في المجتمع فكل من جربوا الخروج بعد تماثلهم في الشفاء لم يجدوا أفضل وأحن من جدران "المستعمرة" بعد أن رفضهم المجتمع. وبالرغم من أن الملك خصص للمكان 2400 فدان تقريبا لكن حدث نوع من السطو عليها فبنت عليها الحكومة مصنع 18 ومصنع "أراسمكو" ولم يتبق للمستعمرة سوى 200 فدان فقط متضمنة المبانى والحديقة التي يعمل بها المرضى في الزراعة لكسب قوت يومهم. داخل المستعمرة داخل المكان الواسع ذى الغرف الواسعة والذي صمم كمبان منفصلة بها قسم للرجال والنساء ومكان للمطعم والمخبز يوجد العشرات من البشر الذين لديهم القصص والروايات التي تركت الما في انفسهم لم تستطع السنوات أن تمحيه، يتغلبون على المرض بابتسامات رقيقة لكل زوارهم لتوصيل رسالة أنهم راضون. "لعب الكوتشينة والدومينو" لا نمل منه أبدا لأن أهم ما يميز المكان هو الصحبة والعشرة هكذا بدأ عم سيد حديثه كأحد أقدم المرضى والذي يرتكن إلى حائط في إحدى الحجرات بالمستعمرة، ولا يتذكر تفاصيل كثيرة عن ملابسات قدومه إلى المكان سوى أنه فوجيء وهو شاب يجلس وسط اسرته يتناول العشاء بالعساكر والجنود يأخذونه بالقوة من وسط عائلته وألقوا به في هذا المكان الذي عاش فيه وفقا لكلامه "أفضل أيام حياته" فعندما فكر منذ سنوات في الخروج بعد تماثله للشفاء ومشى في الشارع وجد الناس تنظر إليه بالرفض والنبذ حتى المطعم الذي أراد تناول الطعام به طرده، وكأنه ارتكب جرما والجميع يدقق النظرات في يديه ووجهه اللتين أثر عليهما المرض تاثيرا ملحوظا ومنذ ذلك الوقت اتخذ قرارا بعدم الخروج. وبعد تنهيدة كبيرة:" يكمل "نفسى أموت" لأن كل أصدقائى وأحبتى هنا ماتوا وبالرغم من أن المرضى المتواجدين الآن أيضا أهلي ولكنى ما زلت أحن إلى أقرانى الذين كنا نذكر انفسنا بالحكايات ومن يفقد حلقة يجد الاخر يكملها له فأنا الأقدم هنا وكل الموجودين لا يعرفون تاريخى السابق ولا الذكريات الأولى " ربع قرن أما الحاج فتحى والذي جاء إلى المستعمرة في التسعينيات من أقصى الصعيد فيقول أنه كان يعيش حياة مستقرة وهادئة لأسرة مكونة منه وزوجته وثلاثة أبناء وفى أحد الأيام فوجئ بإعياء شديد ثم فقدان للإحساس وطفح جلدى وبعد معاناة طويلة مع الأطباء كان التشخيص بأنه مريض بالجذام وعندما وصل إلى "المستعمرة" كان في مرحلة متأخرة فلم ير بعد المسافة الطويلة التي قطعها سوى غرفة مظلمة بالمكان خرج بعدها بساق واحدة "بعد أن تم قطع " الأخرى ليجد نفسه وحيدا ولم ير أو يسمع عن زوجته وأولاده سوى في أحلامه ولم يفكر أحد في زيارته مشيرا إلى أنه فجر ثورة كبيرة عندما أرادت وزارة الصحة أن تحول "المستعمرة" إلى مستشفى منذ 13 عامًًا تقريبا وبذلك يتم طردهم من المكان الوحيد الذي يشعرون فيه بالآمان ويتغلبون فيه على ضعف الإمكانيات بتصبير أنفسهم بانفسهم، موضحا أنه يرفض تماما العيش خارج المكان قائلا "لما نموت إعملوا اللى أنتوا عاوزينه " نرضى بالقليل ويشير فتحى إلى أن الكل راضون بالمياه الموجودة بالرغم من عدم نظافتها ولكن تعودوا عليها والاربع أرغفة من الخبز التي يحصلون عليها يوميا والفرخة و300 جرام من اللحمة أسبوعيا يبيعونها وبثمنها يحصلون على خبز وجبنة وطعام آخر أكثر يكفى الأسبوع وأضاف: "الحكومة حتى الآن تجعلنا نعمل كإجراء لديها فالمزرعة التابعة للمستعمرة والتي بها أشجار البرتقال والتين والليمون المرضى هم من يزرعون بها ومن المفترض أن تنفق عليهم ويذهب دخلها لهم ولكن الحكومة أصبحت تضمها لميزانية الدولة وتعطيهم 7 جنيهات يوميا وزادت إلى 11 جنيها ". نصف قرن الحاجة صبحة ترقد في هذا العالم البعيد منذ 49 عاما، فهو البيت الأول لها، تربت فيه عاشت أيام طفولتها وشبابها وحتى شيخوختها في ارباعه لم تعرف غيره ولم تعش إلا مع سكانها، انها "الحاجة صبحة"، سيدة 56 عاما تربت في مستعمرة أبو زعبل. الحاجة صبحة اقدم مريضة في المستعمرة، دخلتها وهى طفلة ابنة 7 سنوات، توفيت والدتها عند ولادتها، وعاشت مع ابيها لمدة 7 سنوات، في عرب سينا، كانت بداية تعرضها للمرض، عندما شعرت باحمرار في العينين، وآلام في القدمين، وتكسرات في الجسد، ذهبت إلى الطبيب بعد أن ظهرت عليها هذه الاعراض، ليخرج الطبيب متأسفا يبلغ الأب بأن الطفلة مريضة بمرض الجذام اللعين، اخذها الأب لمستعمرة أبو زعبل لتلقى العلاج، وهناك تم احتجازها، لتستكمل باقى حياتها في هذا المكان، عاشت على تبرعات الأهالي والدعم الحكومي، وأصبح زملاؤها من المرضى يمثلون لها الأب والأم والاخوة، وتركها الأب ليعتبرها ماتت مع قسوة هذا المرض، وتزوج من امرأة وأنجب منها واشترطت عليه الا يذهب إلى ابنته أو يقدم لها أي مساعدات، ظنًا منهم أن ذلك يبعد عنهم الإصابة بالمرض، عاشت الشابة حزينة تعانى من قسوة الأيام، فضلا عن آلام مرضها، تلقت العلاج من تبرعات المواطنين، والاب من الزوجة الأولى إلى الثانية إلى الثالثة، وظلت الفتاة تستيقظ في الصباح لتتلقى العلاج، وتجالس بعض أقرانها المشابهين لها في نفس المأساة، ومع إحدى المريضات التي قررت أن تتبناها وبالفعل تربت على يدها اعتبرتها الام والاخت، وينتهى اليوم بذلك ليأتى مثيله من الأيام التالية، وكغيرها من زملائها حاولت أن تجد ما يساعدها في المعيشة بعد أن ساءت أحوالها. وفى مكان آخر من المستعمرة يرقد ابن محافظة المنوفية (س.ع) 20 عامًا، يدرس بكلية اللغة العربية، أصيب بالجذام وهو ابن 15 عاما، أسفر المرض عن فقدانه لقدميه وتساقط في أطراف أصابعه، معروف بالشخص الكتوم الحساس، منعزل عن العالم المحيط به، يخشى أن يخاف المواطنين من تعاملهم معه، أمنيته الوحيدة أن يمشى كما كان يمشي قبل أن يفتك المرض بقدميه ويقطعهما إلى فوق الركبة، وتتأكل أصابعه إلى أن اختفت، شاب كان امله في الحياة أن يعيش حياة طبيعية مثل باقى الشباب، وعندما لم يشئ القدر قرر أن يعيش منعزلًا ينتظر أن يأتى المرض بحياته أكملها، ساعده فاعلو الخير والمتبرعون للجلوس على كرسى متحرك تحقيقًا ولو حتى لجزء من امانيه، فبعد إصابته بهذا المرض لم يقرر أن ينفصل عن العالم الخارجى فقط بل قرر أن ينفصل عن حياته وعائلته ايضًا، خاشيًا من نظرات الخوف التي يراها في عيون الناس عندما ينظرون إلى شكله، بل إن بعضهم يرفض التعامل معه نهائيا خوفا من العدوى. كما تتواجد فتاة من بنى سويف في المستعمرة، هي وأخوها وأولاد أعمامها، بعد أن نقلوا العدوى فيما بينهم، قتاة 18 عامًا، عانت من أعراض المرض وهى في المرحلة الاعدادية، أخذها والدها إلى الطبيب أعطاها بعض الأدوية استمرت عليها ولكن دون جدوي، ظلت كذلك إلى أن انتهت من الشهادة الثانوية، أخذها أبوها إلى مستشفى في القاهرة، ونقلها المستشفى إلى المستعمرة والتي قضت فيها حياتها هي وأخوها طالب الجامعة ذو ال20 عامًا، أسفر المرض عن فقدانها لقدمها اليمني، مازالت تطير طموحها للتحلق بسماء الامل، والتي قالت أن "الجذام" مرض عادى ويمكن الشفاء منه ورغم شفائى بفضل مساعدات عائلتى المادية والمعنوية، إلا إننى ما زلت أفضل العيش داخل المستعمرة للعلاج من مضاعفات المرض واعراضه، وأسرتى تزورنى هنا وعندما أشعر بالملل أخرج لأقضى معهم بعض الأيام والمناسبات ثم أعود للمستعمرة. المستعمرة ترأسها طبيب أسنان هي الدكتورة أحلام سعد الدين الوحيدة التي ارتضت الإشراف على المكان بالرغم من من أنه لا يمت لتخصصها بصلة،"المستعمرة" خالية تماما من تخصص أطباء سوى اثنين من الطبيبات بدرجة ممارس عام ارتضيتا العمل لاستقبال الحالات والتعامل معها. حاولنا التواصل مع الدكتور صلاح عبد النبى الطبيب المشرف على مستعمرة الجذام بأبو زعبل سابقا والذي يتردد اسمه بين المرضى بسبب التغير الذي احدثه في المستعمرة والعلاقة التي تربطه بالمرضى حتى بعد بلوغه سن المعاش والذي بدوره فجرمفاجأة مدوية وهى أن الأطباء أنفسهم يرهبون المكان ويخشون من القدوم إليه، وهو ما حاول التغلب عليه بمساعدة كلية الطب بجامعة بنها في تخصيص تكليف الأطباء في المستعمرة فقط بشكل مباشر دون الانتظار عاما أو أكثر وأيضا دون النظر للوائح والقوانين ويقبلون الأطباء مع الحصول على تقدير جيد،وبالرغم من ذلك فالإقبال ضعيف جدا على المستعمرة،فقد سجل بالمكان منذ أربع سنوات وحتى الآن تسعة أطباء فقط،وعندما يحتاج المريض إلى عملية عامة في أي مكان يجد رفضا من المجتمع والمستشفيات لذلك تم تفعيل قسم العمليات بالمستعمرة لإجراء معظم العمليات للمرضى بالداخل. ويكمل عبد النبي:" المرضى الموجودون حاليا هم معافون تماما من المرض والمكان بالنسبة لهم هو بيوتهم ومحل إقامتهم خاصة أنهم فقدوا ذويهم ولا أحد يسأل عنهم نسبة الشفاء الآن أصبحت 100% وهناك نوعان من العلاج نوع يحتاج فيه المريض إلى الخضوع لكورس علاج لمدة ستة أشهر والأخر يحتاج فيه إلى 12 شهر وكثيرا ما حاول المسئولون عن المستعمرة إقناعهم بالخروج ومواجهة الواقع ولكن دون جدوى فهم أهل المكان والمرضى الجدد من المترددين على المكان لا يعرفون شيئا ومنذ سنوات لم يتم حجز أي مريض جديد لأن المرض ينتقل عن طريق الأنف ولكن عندما يأخذ المريض أول جرعة من العلاج يصبح غير معد. فقر الإمكانات الدكتورة هدى حجاج الممارس العام الحالى الموجود بالمكان تعترف بفقر شديد في الإمكانيات فالمرضى القدامى وفقا لكلامها عرفوا وضعهم ومالهم وما هم عليه أما المرضى الجدد المترددون على المكان فيواجهون مشكلة حقيقية في نقص الأطباء خاصة وأن الوضع المادى لمعظمهم غير جيد. الإلتحام بالمجتمع وأكملت حجاج أن المستعمرة حاولت إشراك المجتمع معها للتغلب على رفضه لها من خلال إدخال نظام العيادات الخارجية ليس للجلدية فقط وإنما لتخصصات أخرى مثل الصدر والأطفال والأنف والأذن والرمد وإجراء بعض العمليات البسيطة مثل اللوز وأصبح يتردد على المكان تقريبا 100 حالة يوميا. وتنوه حجاج إلى أن المشكلة الحقيقية في المرضى الجدد للجذام وان المؤشرات تدل على أن الموضوع في غاية الخطورة فالمستعمرة استقبلت العام الماضى ما يقرب من 53 حالة وهى نسبة كبيرة جدا مقارنة بالنسب العالمية ومعظم الحالات المترددة لها تاريخ مرضى سابق مع المرض، ومعظمها من جنوب مصر وخاصة الأقصر وأسوان وأسيوط. التكيف مع البيئة يعلق الدكتور إبراهيم راجح وكيل كلية الطب بجامعة بنها لشئون البيئة والمجتمع أن كلية الطب أعطت امتيازات للأطباء الراغبين في استكمال التكليف بالمستعمرة وتوفره لهم ليس في الجلدية فقط وإنما كافة التخصصات وتوفر عليهم سنة في حالة البقاء هناك، بالإضافة إلى الاحتفال الذي تقيمه الكلية كل عام في شهر يناير أو فبراير لتذكير المجتمع بالمرض وكيفية التعامل معه ومحاولة تغيير الصورة السيئة عنه لدى الأطباء والمواطنين على حد سواء. وأضاف راجح أن الكلية ترسل قوافل سنوية مكونة من الأطباء والباحثين بكلية الآداب والتمريض إلى المستعمرة لإجراء استبيان للمرضى ومناقشتهم في معيشتهم ومعرفة احتياجاتهم.