فى زمن الرئيس محمد مرسى وجماعته، والمرشد وغطرسته، وإهدار قيمة الحق فى دولة الباطل، تبقى للضحكة قيمتها، والنكتة رونقها، والسخرية مكانتها، حتى نبدد قليلا من آلام "زمن قبيح"، و"عصر كئيب"، لن يحتمله المصريون كثيرا، ووجب عليهم أن ينتفضوا لتغييره. من أجل ذلك ذهبتُ إلى شيخ الساخرين، ورائد النكتة، وصانع البهجة، الشيخ عبد العزيز البشرى "1886-1943"، وجلستُ إليه نحو ساعة فى عالمه، تسامرنا خلالها، فأضحكنى وأبكانى، على زمن يتصدره "اللئام والمتاجرون بالدين والأخلاق". لا يبدو الساخر الراحل بخيلا ممسكا، كشأن ذوى العمائم، حيث أحسن استقبالى، وبدا الرجل بشوشا، غير أن بشاشته سرعان ما تبددت عندما أخذنا الحديث عن أولئك الذين يحكموننا ويتحكمون فينا "باسم الدين وأشياء أخرى". كان حظى طيبا، إذ أوفى "البشرى" بوعده معى، والتقانى وحيدا، بعيدا عن ندمائه وأصدقائه، الذين يحتشدون حوله، كل مساء، فهم مثلى، يبحثون عن ابتسامة، بعدما "أصبح الضحك غالى الثمن حتى فى الآخرة". ألقيتُ عليه التحية، فردّ بأحسن منها، ثم أجلسنى إلى جواره، وتعارفنا، وأصدقكم القول، فإننى كنتُ متحفظا فى الحديث معه، فالرجل لا يرحم أحدا من سخريته، التى تكون غالبا "حادة وقاتلة". استشعر الرجل تحفظى، فوعدنى بأنه لن يُحرجنى، ولن يباغتنى بما لا أحب، فصدقتُه إلا قليلا، ف"الطبع غلّاب"، واسترسلنا فى الكلام، ولأنه كان أزهريا، فلا يزال للأزهر، قيمته الرفيعة فى قلبه، لذا بدا غاضبا من التدخل الصارخ فى شئونه من قبل جماعة الإخوان المسلمين، التى تعتبره أحد مغانمها، التى ربحتها فى معركتها مع الشعب، على شرف وطن موجوع. قالها بمرارة: يجب أن يظل الأزهر "وسطيا"، فلا يقرب منه أولئك المستفزون والمبتذلون، الذين يبتذلون الدولة، ويبتذلون الثورة، ويبتذلون الإسلام، ويبتذلون الأخلاق. قلتُ: كيف وقد آل إليهم الأمر؟ أجاب: "لله الأمر من قبل وبعد"، ثم أردف: هل مرسى وجماعته ومرشده، أعز على الله ممن أذل رقابهم، وأنهى حياتهم أسوأ نهاية، ك"قارون وفرعون وهامان"، ثم تابع متأثرا بآية قرانية: "إن مرسى وجماعته ومرشدها وشاطرها، كانوا خاطئين"، مقتبسا معانى وألفاظ قوله تعالى: "إن فرعون وهامان وقومهما كانوا خاطئين". انتقلنا من قضية الأزهر وأخونته وأسلفته، إلى واقع المصريين، الذين يعانون -فى زمن مرسى-شظف العيش، وقسوة الحياة، فالكهرباء مقطوعة، والمياه ملوثة، والمرور مرتبك، والقمامة فى كل مكان، والأمن مفقود، وأبناؤنا يقتلون غدرا وتواطؤا، والوطن ينتهك، فقاطعنى مضيفى بابتسامة ذات مغزى: "ولسه، فكل ده حصل فى أقل من 30 يوما من حكم "اسم النبى حارسه، أُمال لما ال"100" يوم بتوعه يكملوا، هيكون حصل فيكم إيه؟"، ولم يدع لى فرصة الإجابة، فأجاب قائلا: "أعتقد أنه بمرور ال"100"يوم، هيكون مرسى، ومرشده وشاطره، باعوا الوطن لمن يدفع"! قلتُ: هل ترى وأنت فى مرقدك هنا، المشهد صعبا إلى هذا الحد؟ أجاب: "بكل تأكيد، واللى ميشفش من الغربال يبقى أعمى". لم يكن "البشري"، كسائر الأدباء الذين توشحوا برداء السخرية، فللرجل اصطياداتٌ غايةٌ في السخرية، ولم يكن أحد ينجو من سخريته اللاذعة والمقبولة في آن واحد، ومن أجل ذلك لُقّب ب"شيخ الساخرين". ذكّرته بهذا فتبسم ابتسامة، تحمل هجينا متنافرا، بين التواضع والمكر، فقلتُ: هل تذكر لنا جانبا من مواقفك الساخرة؟! فأطرق رأسه إلى الأرض قليلا، ثم قال: في يوم من الأيام وإبان فترة عملى في سلك القضاء الشرعي، جمعتنى جلسة مع الفريق "إبراهيم فتحي"، الذى باغتنى بسؤاله: هل في الحديث الشريف: "قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار"؟، فأجبتُه: "نعم.. وفي القرآن الكريم: "فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير"! سألتُه: وماذا عن "وجه الحمار"؟ فأجابنى: كنتُ مع عدد من أصدقائى، بإحدى القرى، وبعدما تناولت معهم "الغذاء"، قمتُ؛ لأغسل يدىّ، وتركتُ "جبتى" السوداء، فلما عدتُ، وجدتُ أحدهم رسم بالطباشير "وجه حمار"، على الجبة، فسألتهم فى تلقائية: "من الذي نشَّف وجهه بجُبَّة الشيخ"؟! قلتُ: وماذا عن صفحة الوفيات؟ فأطلق ضحكة مدوية، ثم قال بعدما ألمّ بتفاصيل الواقعة: جاءني ذات يوم، رجل من بلدة نائية، يرغب فى نشر اسمه في الصحيفة التى كنتُ أعمل بها، فسألته: هل أنت عمدة? فأجاب بالنفي, فسألته: هل كنت من ضمن زوار رئيس الوزراء؟ فأجاب بالنفي، فسألته ثالثةً: هل مات لك قريبٌ لننشر اسمك في صفحة الوفيات؟ فأجاب بالنفي، فقلت له: يا عزيزي لا أجدُ لك إلا أن ترمي بنفسك تحت إحدى الحافلات لننشر اسمك في صفحة الوفيات. سخرية "البشرى" الموجعة، دفعت أصدقاءه إلى معاملته بالمثل، وكان من بينهم الشاعر الكبير حافظ إبراهيم، فسألتُه عن ذلك الموقف الشهير الذى حدث بينهما، فقال: كان حافظ إبراهيم جالساً في حديقة داره بحلوان، فدخلتُ عليه، وبادرته قائلاً: "رأيتك من بعيد فظننتك امرأة"، فأجابنى إبراهيم بقوله: "وأنا كذلك، ظننتُك وأنت قادمٌ من بعيدٍ رجلاً"! فضحكتُ، كما لم أضحك من قبل! يجزم "البشرى" بأن آفة المصريين، أن المظاهر تخدعهم، فيظنون الملتحين وذوى العمائم، من أهل الجنة، وذوى المعرفة، وهذا ليس صحيحا بالضرورة، ضاربا المثل، بواقعة طريفة، حدثت معه، عندما كان يركب في إحدى الحافلات، فجلس إلى جانبه فلاَّحٌ, ونظر الفلاَّح إلى البشري وأخرج من جيبه خطاباً وناوله له وطلب منه أن يقرأه، ولما كان خط الخطاب رديئاً, فقد تعسر عليه أن يقرأه فقال للفلاح: صدقاً يا صاحبي لا أعرف قراءته, فاستاء الفلاح وقال له: إذاً علام كل هذه العمامة الكبيرة؟ فما كان من البشري إلا أن خلع العمامة ووضعها على رأس الفلاح وقال له: فلتقرأ الخطاب يا صاحب العمامة! وغير بعيد من مضيفى، لمحتُ شيخا منزويا إلى ركن ركين، علمتُ من "البشرى" أنه الدكتور "طه حسين"، الذى اقتربتُ منه، فصافحتُه، وتعارفنا، وسألته عن رأيه فى "البشرى"، الذى عاصره حيا وميتا، فقال: "صديقى "البشرى"، كان كاتب النيل، وكان ولا يزال عذب النفس, حلو الروح, كريم السجية, مهذب الطبع, مترف الذوق, مرهف الحس, ورقيق الشمائل، كما كان ولا يزال أباً براً, وأخاً وفياً, وصديقاً حميماً, وكان من أجل هذا كله، ولا يزال محبباً إلى النفوس, أثيراً في القلوب, عزيزاً على الأهل والأصدقاء جميعاً، وإن أردت برهانا فاسأل أصدقاءنا من الموتى الذين يتعلقون به منذ أن عرفوه". عدتُ إلى "البشرى" مجددا، واعتذرتُ له أن انشغلتُ عنه قليلا، مع عميد الأدب العربى الدكتور "طه حسين"، فتقبل اعتذارى ممتعضا، فسألتُه: على ذكر الأدب، باعتبارك كنت أديبا لا يشق له غبار، ما المنهج الذى ينبغى على الأدباء المصريين التزامه؟ فأجاب: "عليهم أن يتلمسوا طريقا في الأدب يكون عربي الشكل والصورة، مصري الجوهر والموضوع، عليهم أن يبعثوا الأدب القديم ودواوينه، ويستظهروا روائعه، ويرتووا منها بالقدر الذي يفصح ملكاتهم ويطبعهم على صحيح من البيان، فإذا أرسلوا الأقلام جاء الأسلوب في نسقه العربي الأصيل، متصلة معانيه بما يشعره المعاصرون من الأحاسيس". قلت: ولكن بعضهم يولى وجهه شطر الأدب الغربى، فعقّب: "إذا كانوا في حاجة شديدة إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها ونقل ما يتهيأ نقله إليهم منها في لسان العرب فإن ذلك لا يجدي عليهم إلا إذا هذبوه وسووا من خلقه، ولونّوا من صوره، حتى يتّسق لطباعهم ويوائم مألوف عاداتهم ويستقيم لأذواقهم في نظام من البلاغة محكم التنفيذ". قلتُ له: كان لك رأى مختلف فى قاسم أمين، فهل ألحد صاحبك حقا؟ فأجاب "قاسم أمين لم يكن ملحداً في مطالبته بتحرير المرأة، بل بنى دعوته على قواعد الدين الصحيحة، كما أنه لم يرد تحرير المرأة من الرجل، بل أراد تحرير الرجل من المرأة الجاهلة"! سألتُه: بمناسبة شهر رمضان، هل تصوم مثلنا؟ فأجاب ساخرا: "احنا اتحاسبنا خلاص، لسة هنصوم كمان، هو هيبقى دنيا وآخرة"؟! قلتُ: وما خواطرك عن شهر الصيام قبل أن تنتقل إلى هنا، حيث الدار الآخرة؟ فأجاب، وقد انفرجت أساريره عن آخرها: "رمضان شهر ظريف، محبوب خفيف الروح، يتلقاه المسلمون بالبشر والترحيب في جميع بلاد العالم، ويحتفل له المصريون بوجه خاص أيما احتفال، يحتفي بمقدمه الغني كما يحتفي به الفقير، ويهشُّ له الشيخ الكبير، كما يفرح به الصغير، فهو مهرجان موصول الليالي حتي يتوج بالعيد". ولم أشأ أن أقاطعه، فاسترسل قائلا: "لعل من أظهر الحكم في فرض الصوم على الناس هذا الشهر من العام أموراً: منها أخذ النفس بالشدة ورياضتها على الصبر على المكروه، وهل أكره من ألم بالظمأ والجوع!.. وذلك بأن مطاوعة الشهوات، ومواتاة النفس بكل ما تستشرف له من المتع، واسترسال الإنسان في أسباب النعمة والترف، من شأنه أن يضعف منته، ويفل من عزمه، ويرخي من طبعه، ويخذل من خلفه، حتى يتميع بطول الزمان فلا يصبح كفؤاً لمعاناة الشدائد، والخوض إلى العظائم، والكفاح حيث يجب الكفاح في سبيل الحياة، بل إنه ليصبح إنساناً غير كفء للعيش في هذه الحياة"! قلتُ: وهل هناك من حكم أخرى؟ فنهرنى قائلا: لا تقاطعنى، طالما لم أتوقف! قلتُ: عفوا، فلتكمل..فأضاف: "ومنها أن النسك وكبح الشهوة، وحبس النفس عن تناول الملذات، بل عما هو أقوى من الملذات، أعني الطعام والشراب، وذلك كله في طاعة الله تعالى والخضوع لسلطانه الأعظم، من شأن هذا أن يُخشع النفس ويقلبها في فنون الكمالات ويصرفها، على الأقل، عن أسباب اللهو والعبث والفساد، وبهذا وذاك تتم رياضة البدن والروح جميعاً، ولا شك في أن هذه الأمور من أظهر الحكم في فرض الصيام على عباد الله"، قلتُ: "أحسنت"، قال: "إذن، فلتنصرف الآن، حيث حان موعد خلودى إلى النوم"، قلتُ: "لا بأس..فإلى لقاء.."