أصدقاء جيدون وكتب جيدة وضمير نائم..تلك هي الحياة المثالية. عندما تكره المرأة رجلا لدرجة الموت، فاعلموا أنها كانت تحبه لدرجة الموت «افعل ما هو صحيح دائماً، فهذا سيُرضى البعض ويُذهل الآخرين»، تلك حكمة بليغة،تلقفتُها منذ زمن ،من تراث الأديب الأمريكى الراحل «مارك توين»،وأعمل بها،ورغم أنها تجرُّعلىّ عديدا من المتاعب والاتهامات الملفقة،إلا إننى اعتبرها بندا متقدما فى دستور حياتى.. «مارك توين»، «30 نوفمبر 1835 21 أبريل 1910»، صاحب روايات «مغامرات هكلبيري فين»، التي وصفت بأنها «الرواية الأمريكية العظيمة»،و»مغامرات توم سوير»،واشتهر بسخريته اللاذعة من الحياة، وكان صديقاً للعديد من الرؤساء والفنانين ورجال الصناعة وأفراد الأسر المالكة الأوروبية، ووصف بعد وفاته بأنه «أعظم الساخرين الأمريكيين في عصره»، كما لقبه «وليم فوكنر»، ب»أبي الأدب الأمريكي». وبدا أن جمال مدينة «هانيبال»، و نهر «المسيسيبي»، أسهما كثيرا في نُضج مُخيلة «مارك توين»، فيما ظهر ذلك جليا من تخيلاته لمدينة «سانت بطرس بيرج» الخيالية، التي ظهرت في روايتيه «هكلبيري فين»، و»توم سوير»،وهو ما ذكره لى،على هامش حوارنا. عمل «مارك توين» صبيا فى مطبعة لدى صحيفة «هانيبال»، التي يملكها شقيقه «أوريون»، فيما أقدم بعد ذلك على كتابة عدد من الاسكتشات الساخرة، في الصحيفة، إلا انه غادر مدينة «ميسوري» باتجاه نيويورك، وعدد من المدن الامريكية الأخرى، عندما أتم 18 عاما من عمره، وعمل في عدد من الصحف هناك واكتسب خبرة كبيرة، كما اعتكف على دراسة الادب في المكتبات العامة . ولأن «مارك توين»،رحل عن عالمنا، قبل نحو «102» عام،فإن التواصل مع روحه،لاستضافته فى «عودة الروح»،بدا بالنسبة لى «أمرا عسيرا»،لكننى فى النهاية تمكنتُ من التوصل إليه،وأجريتُ معه هذا الحوار،والذى وإن بدا قصيرا،فإنه جاء متخما بحكم وعبر، من رجل عرك الحياة،وعركته الحياة..ها هو السيد «مارك توين»،ينتظرنى أمام مقبرته،مُمسكا كتابا يلوح به لى،كما اتفقنا سلفا،فاقتربتُ منه،سائلا إياه: أنت السيد «مارك توين»،أليس كذلك؟ فأجابنى :بلى أنا هو، وأنت «مختار محمود»؟ قلتُ:نعم سيدى،أنا هو،لعلك بخير،فعقّب الرجل: أجل،فشكرتُه على وفائه بوعده معى وانتظارى فى المكان المحدد،فقال مندهشا :ما فعلته أمر لا يستوجب الشكر،فقاطعتُه:لكن أحياء كثيرين ،لا يلتزمون بوعودهم،فردّ: هذه نقيصة تشين من يفعلها.. ترجلنا،السيد «مارك توين» وأنا، حتى وصلنا إلى مكان، أعدّه لاستضافتى،فجلسنا،وتجاذبنا أطراف الحديث،وطفنا على موضوعات عدة.. والحق أقول،إنى وجدتُ الرجل،قوى الذاكرة،حاضر البديهة،مهندما،كما أنه لم يتخل عن شاربه الضخم،وشعره الطويل،والأهم من ذلك كله،أنه لم يعد مكتبئا،مثلما أنهى حياته،عندما سبقه إلى هنا «الدار الآخرة»،زوجته وابنته،وصديقه الوفى.. قلتُ له:سيدى،أتذكُّرك دائما بحكمة بليغة، فقاطعنى :وما هى؟ فأجبتُه:الحكمة التى تقول: « افعل ما هو صحيح دائماً، فهذا سيرضى البعض ويذهل الآخرين»؟ فأطلق ضحكة،تشبه ضحكات الموسيقار الراحل «محمد عبد الوهاب»،ثم قال:أجل،أجل،ولكنى أتوقعُ أنها تجرُّ عليك متاعب جمة،أليس ذلك؟،قلتُ:بلى،ولكن باعتقادك لماذا؟،فأجاب من فوره:كثير من البشر،ذوو طباع معوجة،لا يروق لهم الصواب من الأمور،ويكرهون من يحاول أن يفعل ذلك،قلتُ:زدنى،فقال:بادئ ذى بدء،لا تنس أبدا،أن الإنسان هو التطور الطبيعى للقرد،لقد خلق الله الإنسان،بعدما خيّب القرد ظنه،لذا فإن كثيرا من البشر،ذوي أهواء مريضة،وطباع ماكرة،يكرهون الخير،ويعبدون الشر،ومن ثم فإنهم يناصبون العداء،كل من يحاول أن يلتزم جادة الصواب،ويرجمونه بقبيح الاتهامات والشائعات،ويتوهمون أنهم رسل الرحمة وأنبياء السلام،وهم،فى حقيقة الأمر،نواب الشيطان فى الأرض.. قلت :أجل،وإن كنتُ أتحفظ كثيرا،على عبارة «لقد خلق الله الإنسان،بعدما خيب القرد ظنه»،فردّ ساخرا،بعد أن وضع ساقا على ساق: تحفظ كما تحب،لى رأيى،ولك رأيك..،فقلت له:اتفقنا،وأحييك على ديمقراطيتك،فابتسم ابتسامة قصيرة،اعتبرتُها ماكرة. قلت:لقد عشت يا سيدى نحوا من ثمانية عقود،فكيف كانت نظرتك إلى الحياة،وهل تشعر شعور من يعتقدون أنهم وهبوا الخير للحياة،وأنه لولا وجودهم،لتأثرت الحياة سلبا؟ صمت السيد «مارك توين» قليلا،ثم قال:من يتوهم ذلك،قل له: «الحياة ليست مدينة لك بشيء، فهي موجودة قبلك». قلتُ:على ذكر الحياة،ما تقديرك للحياة المثالية؟ فقال: «أصدقاء جيدون، وكتب جيدة، وضمير نائم؛ تلك هي الحياة المثالية». سألتُ «توين»:وكيف يجعل المرء حياته جميلة؟ فأجابنى:»امنح كل يوم، الفرصة، لأن يكون أجمل أيام حياتك». قلتُ:ومتى يتضح لنا معنى الحياة؟ فأجاب «توين»: «عندما نقتنع أننا مجانين،يتضح لنا معنى الحياة». قلت:لقد عشت طويلا،وتعرضت لمواقف صعبة،وكنت شجاعا فيها،فما توصيفك ل»الشجاعة»؟ فأجاب: «الشجاعة لا تعني انعدام الخوف؛ وإنما مقاومته والسيطرة عليه.. لتتخلص من خوفك، افعل أكثر ما يثيررعبك..ومن أسف أن الشجاعة البدنية،بين البشر، أكثر شيوعاً من الشجاعة الأخلاقية». قلت:بعض الناس يتوهم أن كثرة الكلام، أمر إيجابى،رغم أن من يتكلم كثيرا يخطئ كثيرا،فقاطعنى:»من الأفضل لك أن تغلق فمك وتترك الناس يعتقدون أنك أحمق، من أن تفتحه وتمحو كل شك». قلت:فلتحدثنى عن الإنسان.. حينئذ التفت السيد «مارك توين» إلىّ مندهشا،وقد علت الدهشة وجهه،ثم قال:لقد غضبت عندما قلتُ لك: إن الله خلق الإنسان عندما خيّب القرد ظنه وتحفظت عليها،فقاطعته،مصطنعا الابتسامة: وهل أديب فى قيمتك وقامتك،لا يرى فى الإنسان سوى ذلك؟ فعاود الابتسامة،ثم أجاب:»الإنسان هو الحيوان الوحيد، الذي يَخجَل لأنه الوحيد الذي يفعل ما يُخجِل،وهو الحيوان الوحيد الذي يكذب،وأصدق ما يكون الإنسان عندما يعترف بكذبه»! قلت:أعلم أنك مررت بحالة من الاكتئاب فى حياتك،والآن أكثر من 70 عاما،قضيتها حيا،وأكثر من 100 عام قضيتها ميتا،ما الحل الذى يخرج المكتئبين والحزانى،من كهوفهم؟ بدا أن سؤالى هذه المرة لم يكن موفقا،فقد لامستُ أوتار أحزانه،وذكرتُه برحيل زوجته وابنته وصديقه فى آواخر حياته،غير أنه قاوم حالته تلك بإجابة مختصرة،لم ترق لى،وهى:»الجنس البشري يملك سلاحاً فعّالاً وحيداً، ألا وهو الضحك.. تنبع الفكاهة من الحزن لا من السعادة..». لم تقنعنى تلك الإجابة،كما ذكرت لكم،ولكنى تجاوزتها إلى أسئلة أكثر مرحا،فسألته عن المرأة،عندما تكره،وعندما تحب؟ مرة أخرى،انفرجت أسارير مُضيفى،ثم أجاب:»عندما تكره المرأة رجلا لدرجة الموت، فاعلموا أنها كانت تحبه لدرجة الموت ..لا توقظوا المرأة التي تحب، بل دعوها في أحلامها حتى لا تبكي عندما تعود إلى الواقع المر...». قلتُ: والزواج؟ فقال ساخرا:».. يخلق الازدراء والأطفال». قلتُ:أراك متأنقا،رغم رحيلك..،وقبل أن أكمل سؤالى،عقّب قائلا: «الملابس تصنع الرجال... رجل عار لا يؤثر في المجتمع»،غير أنه استدرك قائلا: «لك أن تهمل مظهرك، لكن حافظ على أناقة روحك». قلت:عاصرت،يا سيدى،كثيرا من المراحل التاريخية،وما صاحبها من تحولات، ورأيت بنفسك كيف أن كل صاحب فكر مختلف أو جديد أو متقدم،يواجه اتهامات وتلفيقات،فلماذا؟،فقال مُضيفى:هذه طبيعة الأشياء،»فكل صاحب فكرة جديدة مجرم، حتى تكتب لفكرته النجاح»،وهذا أمر لن يتغير معها تقادمت السنون. قلتُ:أعلم أنك كنت تنفر من رذيلة الكذب،أليس كذلك؟ فقال «مارك توين»: بلى،واعلم أن الكذبة تجوب نصف العالم إلى أن تلبس الحقيقة أحذيتها،والفرق بين القطط والكذب أن القطط بسبع أرواح فقط». قلت ل«مارك توين» مبتسما:هل لديك أقوال أخرى،فى ختام الحوار،الذى كنتُ أتطلع إلى أن يكون أطول من ذلك؟ فأجاب دون تفكير: نعم ،فإننى أرغب فى شنق الجنس البشري وإنهاء هذه المهزلة! C V «مارك توين»،اسمه الأصلى «صمويل لانغهورن كليمنس»، وُلد عام 1835 في مدينة فلوريدا بولاية ميسوري الامريكية. كان «مارك توين» كثير الترحال، ولم يلتحق بأية مدرسة تقليدية،وعلم نفسه بنفسه. من أهم أعمال «مارك توين» الروائية: «هكلبيري فين»، «مغامرات توم سوير»،«متشرد بالخارج»،ومجموعة قصص «الضفدعة النطاطة المحتفى بها القادمة من مقاطعة كالافيراس». مشاعر من الحزن والاسى والتقدير سادت الوسط الأدبي في امريكا بعد رحيل «مارك توين» حتى ان الرئيس الامريكي الراحل «ويليام هوارد»، قدم كلمة في رثائه.