هو كاتب مثير للجدل، رحل عن عالمنا مؤخراً، لكنه عاش حياته بالطول والعرض، كانت له صولات هنا وجولات هناك، معارك وأزمات، اقتحم حقول الألغام بآرائه الجريئة، وأفكاره المتجددة، لم يعرف يوما الحد الفاصل بين المسموح والممنوع، ورغم أنه عاش في مجتمع لا يزال يعتبر قضاياه الدينية والفقهية «تابوهات» محرمة، والاقتراب منها بالنقد والتحليل رجسا من عمل الشيطان، إلا أنه لم يخش لومة لائم، لأنه باختصار: جمال البنا. نشأ جمال البنا، الذي ولد عام 1920، في بيت أزهري، وهو الشقيق الأصغر لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا، ورغم هذا كان يعلن خلافه مع الجماعة ورفضه لأفكارها, حتى وهو داخل السجن مع قياداتها، وفى حياة شقيقه مرشدها الأول. دوّن البنا يوميات حياته في معتقل الهايكستب الذي دخله عام 1948، مع مجموعة من قيادات الجماعة الذين يوصفون ب «الرعيل الأول»، كتب عن علاقته بهم، عن مبادئهم ومواقفهم وطريقة تفكيرهم، ليكشف مفاجآت ربما تقود إلى المقولة الشهيرة «ما أشبه الليلة بالبارحة»، وترفع «ورقة التوت» عن «زمن الإخوان» الذي نرفل فيه الآن! فى هذه اليوميات التي تنفرد «فيتو» بنشرها على حلقات بتفويض بخط يد صاحبها، باعتبارها وثيقة تاريخية مهمة، يروي جمال البنا -لحظة بلحظة، حكايات ومواقف مثيرة، فتابعونا حلقة بعد حلقة. الجمعة 28/1/49 استيقظنا اليوم صباحاً كالعادة, وقلت لنفسى وأنا أفرك عينى «إذن فليس هناك انتقال إلى الطور» ولكننا ما لبثنا أن علمنا أنه قد نشر ب«الأهرام» أن إخلاء معسكرات هايكستب قد تقرر لضرورات عسكرية, وأن المعتقلين سيرحلون جميعاً إلى الطور بصفة مؤقتة، وأخذنا نتناقش فى هذا الوضع، وكان من رأى عبدالباسط أن نمانع ونقاوم، ولكن لم يأخذ برأيه أحد فانطوى على نفسه وقد أخذته نوبة عاطفية فالتمعت عيناه بالدموع، وسرت عدواه إلى حلمى نور الدين وطاهر الخشاب، وعبدالله الصولي، وكانت لحظة حرجة استمرت هنيهة وانقشعت, ورضى عبدالباسط أخيراً وعاوده طيفه المرح، فقال ان فى النقل خيراً كثيراً للحيته وهى كل ما يملكه! الجميع يصلون الجمعة وقد تطوعت بالتخلف عن الصلاة فى سبيل حراسة الحجرة؛ لأن النجارين والبناءين الذين يعملون فى دورة المياه يشتغلون بنشاط غير مألوف!، فيا للسخرية أن يشتد نشاط هؤلاء فى الوقت الذى نغادر فيه المعتقل بعد تلهفنا الطويل إلى دورة المياه هذه. اقرأ فى «الأهرام»، و«الأساس» (70) أن أخبار البترول والحديد هى أشد ما لفت نظرى واستأثر باهتمامى، فهذه لحظة مجيدة فى تاريخ البلاد الاقتصادى, وإذا قلت الاقتصادى فأنت تصف به كل شيء على الطريقة الاشتراكية!، وأحلامنا كلها تتحقق، وما من شك فى أن البلاد تسير رغم أنفها على شرعة العصر، وتأخذ شيئاً فشيئاً فى التصنيع، وتتبلور الطبقة العمالية وتزداد كل يوم عما قبله، وفى هذه المصانع البترولية والحديدية، وتجمع الآلاف من العمال نعيم الشيوعية الوشيك، وحلمها القريب فوأسفاه على اختفاء جماعة العمل (71) فى هذه الفترة الحاسمة من تاريخ البلاد. السبت 29/1/49 الساعة 2 ظهراً فى القطار إلى السويس نمنا أمس على خليط من الشائعات المتناقضة, فمن قائل أن الرحيل هو فى المساء ما من ذلك شك، ومن قائل إن لا رحيل هذا اليوم ولا الذى بعده, بدليل أن المتعهد أكد ذلك ووعد بإحضار «سبانخ» للغداء، وقد اجتمع الإخوان المسئولون بعنبرنا لتقرير الموقف، وكان رأى عبدالباسط ومصطفى مؤمن المقاومة، ولكن الأغلبية لم توافق على هذا الرأي، وقد راق لى إلى حد ما رأى المقاومة, وودت لو أن شباب الجماعة تأخذ دائماً بفكرة تفضيل المقاومة والنضال على الهدوء والسلام، وأن تأخذ نفسها بأن تضرب، وتضرب، وتحتمل البرد والحر ويكون جمالها، ووقاؤها وكفايتها فى نفسها فحسب. واستيقظت فى السادسة على صوت الاستاذ عابدين وهو يذكر أن وقت الرحيل قد قرب على ما يظهر، لأن مزيداً من الجنود والضباط قد حضروا وفصلوا بين المعتقلين، وقد كانت نظرة واحدة كافية لتوكيد هذا المعنى فأخذنا نلبس، و»زاط» المعتقل كله، وما كادت الساعة العاشرة تحل حتى قرأ أحد الضباط معظم الأسماء وأمر أصحابها للاستعداد للرحيل بعد ساعة، وقد أغفلوا أسماء الطلبة، وأعضاء مكتب الارشاد والجمعية التأسيسية (72) ومعنى ذلك سفر ثلاثة منا، وبقاء الأستاذ عبدالرحمن، وكان لذلك وقع مؤلم علينا جميعاً. أخذنا بعد ذلك نعد اشياءنا وقد حرمنا بطاطيننا ومخداتنا ومراتبنا, لكن رجال البوليس لم يسمحوا بأخذ شيء وتمسك الإخوان بضرورة أخذ البطاطين على الأقل, وانتهى الموضوع بأخذ بطانيتين، لا أربع لكل واحد وأزفت ساعة الرحيل، فحضرت ثماني أو عشر لوريات، وانتظم رجال البوليس بمعاطفهم وسلاحهم (البندقيات والسونكي) صفين, انتثر فى وسطها كبار الضباط, بينما كون الإخوان نصف دائرة مقابلة لصفى الضباط، وأخذ هؤلاء فى النداء، بينما أخذ الإخوان يودعون ويعانقون بعضهم بعضاً والدموع تتبادر من العيون، ولقد رأيت أحمد عبدالرحمن المؤذن (من البدرشين) وله عضلات فولاذية من حمل الأثقال يبكى كالطفل وهو يعانق أخاً له, بينما كان طاهر الخشاب وعابدين والأستاذ عبدالرحمن وحلمى نور الدين وغيرهم يجهشون بالبكاء. وقد صعدنا أنا والاستاذ محمد وعبدالباسط فى لورى لم يكن فيه غيرنا وقد أحاط بنا نحو عشرين جندياً، ومن معتقل هايكستب حتى محطة السكة الحديد حيث ركبنا هذا القطار. وداعاً ياهايكستب الأحد 30/1/49 السفينة عايدة الساعة 7٫30 أكتب هذه الكلمات فى بوفيه سفينة جلالة الملك «عايدة»: وهو حجرة صغيرة، ويظهر أنى مغرم بالحجر الصغيرة، كل ما فيها أبيض، ستائر بيضاء، ومفارش بيضاء، ونحن- محمد وعبدالباسط وأنا- فى انتظار الشاى الذى هدينا إليه بعد طول تخبط لم يقف بنا القطار فى السويس، ومر بها مروراً هيناً، بينما أخذت أستعيد- عندما رأيتها- ذكريات قديمة على هذه المحطة، وفى مسجد بعدها، فى الطريق ما بين السويس وبورتوفيق. وكان الإخوان ينتهزون وجود أهالى على الطرق فيرفعون أصواتهم بالهتاف حتى يعلم الناس بأمرهم، ولست أشك فى أن الأمر سيصل سريعاً إلى القاهرة، مع المبالغة المألوفة. وسيقول الناس إن قطار من الإخوان المسلمين فيه ما لا يقل عن ثلاثين ألفاً قد اعتقلوا فى الطور. وقد وقف القطار بنا فى الميناء نفسها، وفى مواجهتنا تماماً، كانت تقف السفينة التى ستقلنا إلى الطور. سفينة جلالة الملك «عايدة» وقد تفاءلت من اسمها «النسائي» والذى يرمز إلى العودة، باخرة صغيرة، وقد بدت صغيرة جداً حتى أننى استبعدت أننا سنسافر عليها، وفيما عدا النور المنتظم الذى كان ينبعث من نوافذ ممراتها المستديرة, فلم يكن لها جمال يلفت النظر، وقد دخلناها كعالم مجهول، وخصص لنا، وللمعتقلين اليهود نصف الدور الثانى والثالث, يشاركنا فيه مثل عددنا أو أقل من الجنود بذخائرهم، وأحمالهم، وقد وجدت نفسى منساقاً وسط صف طويل مزدحم إلى ساحة السفينة الخشبية, حيث تكدس الإخوان تكديساً بحيث يتعسر وجود مكان للجلوس القرفصاء، ولقد رحبت، أول ما دخلت بالدفء الذى لمسته، فقد كنا على مقربة من آلات السفينة، ولكنى لم ألبث أن ضقت به كل الضيق فقد كانت المساحة الضيقة، الواطئة، تمتلئ بأبخرة التنفس؛ فتفسد الهواء فساداً تاماً، وكان السعيد هو الذى يعثر على مكان يجد وراءه ما يُتكأ عليه، ولكن جوانب السفينة، وهى ما يُتكأ عليه كانت محاطة بمواسير حرارية تنفخ حرارة.. ولم يكن هناك سوى لمبة كهربائية واحدة ضعيفة أخذت تنطفئ فيسود الظلام، ويعلو الصياح وترتفع النداءات. جو الزحام الخانق، والدفء الذى يبعث العرق، والظلام, والجلسة المتعبة أثار مشاعرى وأشعرنى بالألم والشقاء، ولاسيما أن هذا الصندوق المغلق سيسير بنا فوق لجج البحار. والواقع أن سير الباخرة كان من خمول الأثر، وضآلة الوقع, بحيث أننا لم نحس بسيرها لمدة طويلة وقد حسبتها واقفة حتى أكد لى الكثيرون أنها تسير بسرعة كبيرة, فصعدت إلى السطح، وشاهدت الأثر الذى تتركه مراوحها الدائرة فى الماء الفسفورى الأزرق الذى كان يلتمع ببياض جميل, عندما يتلقى ضربات المراوح كأنما قد سلط عليه أنوار كاشفة. وقد شعر عبدالباسط بتعب فنقلناه إلى كابينة المستشفى, حيث كان بها سرير صغير نظيف، فاستغرق فى النوم فوراً، ونمنا أنا ومحمد بجانبه على هيكل عظمى لسرير حديدى خلا من المراتب والغطاءات وكانت نومة متعبة. فلما كانت السادسة استيقظنا وقمنا نمتع أبصارنا بالصباح الجميل فصعدنا إلى السطح.. وتجولنا فى أبهاء السفينة, حيث بدت أكثر جمالاً تحت آشعة الشمس المتدفقة عليها، كما بدت أكثر اتساعاً عندما لاحظنا ممراتها المتعددة النظيفة المستكملة لجميع وسائل الراحة بشكل بسيط يخلو من التكلف والتعقيد حتى هدانا أحد الإخوان إلى هذا البوفيه الجميل الذى نتناول فيه الآن فنجاناً من الشاى المتقن لم نذق مثله منذ أن غادرنا القاهرة من قرابة شهرين، والواقع أن حياة البحار تروق لى كثيراً بما فيها من مغامرات وخبرات ومعارف. الاثنين 31/1/49 ألقت السفينة عايدة مراسيها على رصيف الطور فى الساعة الثامنة والنصف تقريباً ولما كانت قد تحركت من بورتوفيق فى الساعة السابعة، فمعنى ذلك أنها قطعت المسافة فى نحو 14 ساعة وإن لم نحس نحن بأكثر من ساعتين أو ثلاث منها. وقد سرنا طويلاً حتى وصلنا إلى المعتقل دون حراسة تذكر.. وليس هناك فى الحقيقة معتقل خاص لإيواء المجرمين السياسيين، ولكنها عنابر الحجر الصحى وقد خصصت فى هذه الفترة التى لا يشغلها فيها أحد لاستقبالنا، وتتكون هذه العنابر من أقسام يسمونها حذاءات (وقد نزلنا نحن فى حذاء رقم خمسة) وهى تبدأ من واحد إلى عشرة ويمتد الحذاء نحو خمسمائة خطوة طولاً ومئة خطوة عرضاً وما بين ذلك هو الفناء الرملى الواسع. هوامش 70 - هى جريدة «الأساس» التى كان يصدرها الحزب السعدي. 71 - جماعة العمل الوطنى الاجتماعى. 72 - طلب الأستاذ حسن البنا من وزيرى الدولة مصطفى مرعى بك وزكى على باشا أثناء مفاوضاته معهما بعد حل جماعة الإخوان الإبقاء على أعضاء مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية فى معتقل الهايكستب ليسهل الرجوع إليهم والاتصال بهم.