هو كاتب مثير للجدل، رحل عن عالمنا مؤخراً، لكنه عاش حياته بالطول والعرض، كانت له صولات هنا وجولات هناك، معارك وأزمات، اقتحم حقول الألغام بآرائه الجريئة، وأفكاره المتجددة، لم يعرف يوما الحد الفاصل بين المسموح والممنوع، ورغم أنه عاش في مجتمع لا يزال يعتبر قضاياه الدينية والفقهية «تابوهات» محرمة، والاقتراب منها بالنقد والتحليل رجسا من عمل الشيطان، إلا أنه لم يخش لومة لائم، لأنه باختصار: جمال البنا. نشأ جمال البنا، الذي ولد عام 1920، في بيت أزهري، وهو الشقيق الأصغر لمؤسس جماعة الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا، ورغم هذا كان يعلن خلافه مع الجماعة ورفضه لأفكارها, حتى وهو داخل السجن مع قياداتها، وفى حياة شقيقه مرشدها الأول. دوّن البنا يوميات حياته في معتقل الهايكستب الذي دخله عام 1948، مع مجموعة من قيادات الجماعة الذين يوصفون ب «الرعيل الأول»، كتب عن علاقته بهم، عن مبادئهم ومواقفهم وطريقة تفكيرهم، ليكشف مفاجآت ربما تقود إلى المقولة الشهيرة «ما أشبه الليلة بالبارحة»، وترفع «ورقة التوت» عن «زمن الإخوان» الذي نرفل فيه الآن! فى هذه اليوميات التي تنفرد «فيتو» بنشرها على حلقات بتفويض بخط يد صاحبها، باعتبارها وثيقة تاريخية مهمة، يروي جمال البنا -لحظة بلحظة، حكايات ومواقف مثيرة، فتابعونا حلقة بعد حلقة. لا يوجد من قادة الإخوان فى العنبر من يحترم الآخر أو يشعر نحوه بحب أو احترام .. كل منهم يحتقر الآخر أو يدبر له الدسائس فى الخفاء سقطوا من عيون الأعضاء واحتقرهم الطلبة حتى لقبوهم ب «البهائم» سطحية تفكير الإخوان وتعصبهم جعلني أتمنى انتصار الشيوعية.. «وعلى وعليهم يا رب» ملخص الحلقة الخامسة: تحدث الكاتب جمال البنا فى الحلقة السابقة عن حادث تفجير مكتب النائب العام بحقيبة ملغمة, وضعها شاب إخواني، الأمر الذى أدى إلى انخفاض ترمومتر التفاؤل بالخروج من المعتقل، موضحا أنه لا يستبعد اندساس بعض الشيوعيين بين صفوف الإخوان.. وأوضح البنا أنه أصبح يخشى من إصابته بعقدة نفسية ضد الدين, وبات ينفر من الإخوان وغرورهم وارتكابهم للطيش والحماقات. وروي كيف يتعامل قادة الجماعة فى المعتقل مع بعضهم البعض، وكيف تلقى الشيخ محمد الغزالى "علقة ساخنة" لمجرد اعتراضه على صالح عشماوى وهجومه على يوسف طلعت. وفى هذه الحلقة، يتحدث جمال البنا عن "دسائس الإخوان" وسقوط قادتهم فى المعتقل فى عيون الأعضاء والطلبة لدرجة أنهم لقبوهم ب"الأغبياء والبهائم".. والمزيد من التفاصيل فى السطور التالية: الحلقة السادسة الاربعاء 19/1/49 استيقظت اليوم صباحاً عندما بدأ الإخوان يقرأون المأثورات، وأخذت أفكر، وكان عقلى يغلى كالقدر، والأفكار تنثال عليّ من كل جانب، فيالها من لحظة لو أمكن تسجيلها.. كنت أفكر فى الإخوان، وفى شبابهم ودعوتهم، وقادتهم، وكنت قد شغلت نفسى أمس بعمل استفتاء اجتماعى ووطنى لشباب الإخوان المثقف فى الجامعة, وأمضينا طول النهار فيه. وآمل أن أظفر بنتائج بديعة تؤيد وجهات نظري.. (راجع الملحق الثالث).. والجو اليوم مشرق، وقد كان طوال الثلاثة أيام الماضية عاصفاً بارداً حتى تعودنا أن نسأل أول شيء فى الصباح عن الجو، تماما كما نقرأ فى الروايات الأجنبية!. تفاقمت اليوم علة أحد الإخوان وظن هؤلاء أنه مصاب بالتيفوس وأن ادارة المعتقل تهمل فى ترحيله إلى المستشفى, فقرروا القيام بتظاهرة وتحطيم الأسلاك، وقد أمكن للاداريين من أعضاء مكتب الإرشاد ثنيهم بمنتهى الصعوبة عن فكرة تحطيم الأسلاك، والاكتفاء بالتظاهرة، وقد تم ذلك واجتمع الإخوان فى طابورين, يشمل الأول المعتقلين «القدامي», والثانى المعتقلين الجدد, وأخذوا يهتفون هتافاتهم المعروفة ويقومون ببعض الحركات النظامية, لكن بأى شكل، لقد كانت الصفوف خليطاً من صغار وكبار، ومثقفين وجهلة، أفندية ومشايخ، وإن كان الجميع بالجلابيات أو البيجامات وعلى رءوسهم العمائم المختلفة التى برع الإخوان فى صنعها من الفوط أو الطاقيات الريفية، وذلك رغم رداءته فإنه يمثل واقع شعبنا بأوساطه المختلفة, وهو يدل أيضاً على قوة الدعوة التى انتظمت هؤلاء جميعاً ووحدتهم على عقيدتها. كان لهذه التظاهرة أثرها, وقد بذل الضابط النوبتجي، وهو ملازم ثان، وشاب صغير سمح الخلق، كل جهده، وإن لم يمنعه ذلك من أن يجمع جنوده بعيداً عن المعتقل فى صفوف متراصة سوداء خالية من الحماسة شأن كل تنظيم حكومي، وأمكن أخيراً إحضار عربة المستشفى ونقل المريض ويعتقد أن مرضه لا يتجاوز نزله شعبية، ضاعفها قيامه للصلاة عند الفجر. أصبح الأستاذ محمد جنباً ذلك الصباح، ولم يترك طويلاً فى حيرته فى كيفية تسخين المياه إذ طُلب لأداء الشهادة ولم يكن فيها أمر هام، فلما عاد قبيل المغرب رأيته يفكر فى أن يسخن مياه ويفشل فى ذلك الوقت المتأخر وعبثاً حاولت ثنيه عن هذا العزم الأخرق، الذى منه الاصابة الأكيدة بنزلة شعبية.. فرفض قائلاً إنه لا يستطيع أن يتأخر عن «حاجة ربنا». حقا ما أشد تأثير ذلك على النفس، لقد ذكر لى شيئاً ماضياً قديماً وصور لى عاطفة قديمة, طالما استشعرتها فى أيام جاهليتى الدينية الأولي، نعم فعندما كان الإسلام دعوة تجديد كان ما قبله جاهلية، ولما صار الآن دعوة رجعية، صار ما بعده جاهلية. نعم.. نعم.. إنى أفهم الضمير الدينى الذى ينبعث عند تأخير فرض، أو يثور عند ارتكاب ذنب، والذى يبعث فى النفوس-فى مثل حالة صاحبنا- شعوراً بالقذارة لا يمكن أن يطمئن معه الإنسان إلا بعد اغتساله.. أجل.. أجل.. هذا هو الضمير الدينى وتلك هى قوته، وتمكنه من النفوس, فياليت شعرى متى يستطيع الناس أن يتحرروا من ربقة الطبقة وأسرها القاسى وأن يكون ضميرهم الفردى والاجتماعى هو أصل أعمالهم والحكم على تصرفاتهم، ومنبع أفكارهم. واأسفاه فقد انتكست هذه الأمة مرة أخرى بعد أن بدأت بالسير خطوة واحدة فى طريق التحرر.. وعندما أعلن هذه العاطفة فى جرأة الرعيل الأول من خريجى الجامعة المصرية القديمة أمثال طه حسين، وعلى عبدالرازق ومنصور فهمى ومن قبلهم قاسم أمين، وشوقى بك ومحمد عبده، ولكن القوى الغبية والكثرة العددية انتصرت, ففعلوا مع طه حسين ما فعلته البابوية مع غاليليو منذ ثلاثمائة سنة وهى- على أقل تقدير- درجة تأخرنا (56). لا يمضى يوم على هذا العنبر إلا ويحدث من التصرفات ما يدل دلالة قاطعة على ضعف أفراده, وهم المفروض أنهم قادة الإخوان وممثلو المرشد، وأعتقد أنه لا يوجد منهم من يأتمن الآخر أو يشعر نحوه بحب أو احترام، فكل واحد منهم يحتقر الآخر أو يدبر له فى الخفاء الدسائس, وقد سقطوا تماماً فى عيون كل الأعضاء واحتقرهم حتى الطلبة, وانكشف لهم غباؤهم وقصورهم وعادّ يتهم (57) وسطحيتهم حتى لقبوهم بالبهائم والأغبياء. وقد حدث اليوم حادث صغير يدل على تحللهم، وكل يوم يحدث مثل هذا الحادث، أراد الأستاذ عبدالرحمن أن يكتب خطاباً إلى الأستاذ «المرشد» بطريقة ما, واتفق الجميع على ذلك ماعدا حلمى نور الدين الذى كان- على ما يظهر- ملتفتاً إلى أمر آخر، فلما جاء يسلمه إلى ص.ع (58) الذى كان سيذهب فى أمر ما، اعترض حلمى نور الدين فغضب الاستاذ عبدالرحمن ومزق الخطاب, وتلى ذلك مناقشة طويلة عريضة بينهما, اشترك فيها تدريجياً الجميع، وبينما كان ذلك يتم انصرف الدكتور الذى كان ينتظر مع الاستاذ عابدين الاستاذ ص. ع, بينما يظن هذا ص. ع أنه لم يحضر بعد! الجمعة 21/1/49 فى خلال اشتغالى بعمل الاستفتاء حاول بعض الإخوان أن يستدرجنى إلى مناقشة مبادئ وأفكار الجماعة، ورغم أننى اوفر جهد الدخول فى مثل هذه الأحاديث لأنها- كما ثبت من التجربة- عقيمة، إلا أننى لم أجد بداً من الرد عليهم، وكالعادة لم يقتنعوا، الأمر الذى كنت واثقاً منه مقدماً لأن مدار الرجل المؤمن مغلق، وهو مقيد بقانون جاذبية دينية لا يستطيع منها خلاصاً، والمسألة هى فى الحقيقة إما أن يكون هناك دين أو لا دين، أما التوسط فليس بالحل الأصيل, وإنما هو محاولة تقريب فحسب، ولقد رأيت من سطحية تفكيرهم وتعصبهم-وهما أمران مقترنان بالطبع- ما يجعل صدرى يضيق وخلقى يسوء ونفسى تشمئز، وما يجعلنى أتمنى انتصار الشيوعية وهى عدوتى اللدودة (59).. ولكنها عدوة لهم أكثر مما هى عدوة لي.. «وعليّ وعليهم يارب». ليس من جديد فى الأخبار.. اللهم إلا أخبار النوم، كما نسميها نحن، وهى عبارة عن الرؤى والأحلام التى رآها كل واحد، وهى أول ما نستفتح به عمل اليوم، إن صح أن هذا عملاً، ولا تخلو هذه الرؤى من شيء يبّشر، ومن المزيج المختلف، المتكون من قوافل وبيوت ورحلات ومعايش وغير ذلك، مما يرتسم فى ذهن الحالم، يرتفع أو ينخفض ترمومتر التفاؤل أو التشاؤم وقد أخذنا أمس أصواتنا على الخروج من عدمه، فكان أكثرنا تفاؤلاً هو عبدالباسط الذى قال إن الافراج سيأتى فى خلال أسبوع, وأبعد منه أملاً من قال إن الافراج لن يكون إلا فى مايو، وقد قلت أنا إن الافراج سيكون فى مدة عشرين يوماً، وعلى كل حال فإن نوبة التفاؤل مرتفعة هذا الصباح. من العصر حتى المغرب محاضرة عن معركة «ديروم» أو دير البلح تكلم فيها ثلاثة من الإخوان الأول عبدالعزيز على (60) والثانى السهيل الفرماوى (61) والثالث يوسف طلعت وجميعهم ممن شهدوها، وقد كان الثالث قائدها، وعليه - فيما أخبرنى أحد رجال الجيش المصري- تعود مسئولية استشهاد اثنى عشر أخاً من أحسن الإخوان، لكنى بعد سماعى له ولزميليه أبرؤه، فليس هو المسئول، وإن لم يكن بريئاً، ولكن المسئول هو الفهم الدينى الذى تدخل فى المعركة، فهم نصوص ذكرت فى مناسبات خاصة، على أنها لوازم وتقاليد للقتال الإسلامي، ذكر المحاضر الأول أنه كان يريد الانسحاب عندما انفرد عن إخوانه ومنعه آية تذكرها «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ» (62)!.. فكاد أن يلقى حتفه لو لم يسارع بالانسحاب بمساعدة زميل!. وذكر الثاني: «والمغيرات صبحاً» (63) فى معرض الاستدلال لضرورة وجوب الهجوم صباحاً وليس مساء, وياله من فهم، أما الثالث فقد ذكر أن بعض الإخوان خاطبه فى عدم خوض هذه المعركة لما تراءى له أن الأحوال ليست على مايرام، لكنه رفض قائلاً: ما كان لنبى أن يخلع لأمته بعد أن لبسها، (64) كما ذكر أن الذين استشهدوا إنما أصابهم الرصاص لأنهم تركوا مواقعهم إلى العراء فى طريقهم إلى المستعمرة, وذلك لأنهم تذكروا الآية «ادخلوا عليهم الباب»(65). هوامش 56- ما فعلوه مع طه حسين بعد صدور كتابه «فى الشعر الجاهلي» عام 1926م 57- عادّ يتهم: أى عاديون 58- ص.ع: ربما يقصد صالح عشماوي 59- أصدر الأستاذ جمال البنا كتابه «فى نقد الماركسية» عام 1948م 60- عبدالعزيز على: له أدوار مهمة فى التاريخ النضالى عن طريق العمل السرى المسلح خلال العشرينيات حتى الأربعينيات، وقد اختير فى 7 سبتمبر 1925م وزيراً للشئون البلدية فى أول وزارة مدنية بعد ثورة يوليو تقديراً لدوره وتاريخه، واعتقل مع تنظيم 1965م الإخواني. 61- السهيل الفرماوي: من أعضاء التنظيم الخاص لجماعة الإخوان. 62- سورة «الأنفال» - آية رقم 15 63- سورة «العاديات» - آية رقم 3 64- قالها النبى فى غزوة «أحد» 65- سورة «المائدة» - آية رقم 23 الحلقة القادمة: مخدرات.. إخوانية! غباء الجماعة أحال الآيات القرآنية إلى سموم وحبوب مخدرة تعزلهم عن العالم الخارجي والنيابة تطلب إعدام الشاب الإخواني المتهم بنسف مكتب النائب العام