كان التاجر الملىء حقدا والخالى من أي إنسانية عرفها العالم ، قد استأجر رجلين: حمالا يخدمه طوال رحلته للبحث والتنقيب عن حقول البترول الصحراء، ودليلا يرشده في دروب الصحراء القاحله ولكن الأخير هذا كان يترفق بالحمال الضعيف المسكين ويعامله بإنسانية ورحمة لم يعهدها أو يؤمن بها من قبل هذا الرأسمالى المتجبر، لذا كان الصدام بينهما أسرع من المتوقع وعلى إثره ترك الدليل العمل لدى هذا الكائن قاسى القلب لكن قبل أن يترك أعطى الحمال زمزمية مياه إضافية خلسة حتى يرحمه من ظمأ متوقع في رحلة مجهولة لا دليل فيها سوى الجشع والقسوة من كائن رأسمالى وقح لا يعرف سوى لغة القوة والبطش مقابل الخنوع والسلبية من حمال فقير يستضعف نفسه قبل أن يستضعفه الآخرون. سار الرجلان في دروب الصحراء وحدث ما كان متوقعا وهو أنهما ضلا الطريق معا، ولكنهما قبل أن يحدث ذلك كانا قد ضلا طريق وجودهما في الحياة، فلم يُخلق التاجر لكى يستعبد الفقراء والضعفاء ولم يتعرض الحمال لك لهذا الهوان والذل إلا لخنوعه وسلبيته وهوانه على نفسه قبل أن يهون على جلاده ومستعبده حتى أنه كان يفكر وهو ذليل كسير النفس والبدن، في عقاب قضائى متوقع إذا مر أحدهما وشاهد سيده ملقى في الصحراء ميتا وهو ما زال على قيد الحياة بفضل قليل من قطرات الماء التي ادخرها لتلك الرحلة! بالطبع نفد الماء وارتشف التاجر آخر قطرات كانت معه في زمزميته وبدأ يفكر في وجوده هو فقط والحصول على الماء المتوافر لدى الحمال في زمزميته الظاهرة أمامه دون أن يدرى أنه قد أخفى أخرى إضافية منحها إياه الدليل... يقول لنفسه: لو كنت مكانه لفكر في قتلى خاصة بعد أن كسرت إحدى يديه وضربته ضربا مبرحا.. حسنا لا بد من قتله والحصول على الماء أو حتى قتله دون ذلك اتقاء لرد فعله وانتقامه ! ولكن الحمال لم يكن كذلك للأسف ولم يفكر سوى في اقتسام الماء بينه وبين هذا الأفاق المجرم، وفي اللحظه التي يلوح بها بصعوبة له لأخذ زمزميته، ظن التاجر المتعب من أرق التفكير في القتل والنجاة بحياته على حساب من دونه، ان خادمه يحمل حجرا لينقض به عليه فأسرع بالضغط على زناد مسدسه وقتل الحمال في الحال. بالطبع كانت المحاكمة هزلية وواقعية في زمن تحكم المال في كل شىء وإحساس القضاة وقتها في ألمانيا بأن رأس المال هو سندهم وحاكمهم والمشرع لهم، فلقد رأى القاضى أن القاتل هو البرىء وأن المدان هو المقتول... نعم بل إن القاضى كان هو المحامى الذي يدفع عن المتهم كل احتمال بالإدانة ملتمسا له العذر بسبب قسوة الحمال واستفزازه لسيده ورغم شهادة الشهود التي أدانت التاجر إلا أن القاضى منحه صك البراءة وحذر أرملة القتيل من معادوة الشكوى وإلا سجنها !! كانت تلك هي قصة أو مسرحية (القاعدة والاستثناء) رائعة الكاتب المسرحى الألمانى العظيم برتولد بريشت أو ما نعرفه في مصر ب" بريخت" التي كتبها في وقت كانت ألمانيا تعانى فيه نازية هتلر ونظرة العالم المتدنية لها، وبالطبع لم يتهم أحد بريشت بالخيانة أو إهانة القضاء بل إن ألمانيا تتباهى حتى اليوم ولقرون قادمة بعظمة هذا الكاتب الإنسان الراقى الذي انتمى لقيم الحق والعدل وفقط وصار قوة ناعمة بحق لتلك الدولة التي انشغلنا بها وبزيارة الرئيس السيسي لها ثم أطلقنا إعلاميا على بعض الممثلين الذين هتفوا هناك وفقط قوة ناعمة... ثم إكتشنا فجأة أنه لا علاقة لأغلبهم بمفهوم القوة الناعمة التي تضم مبدعى أي أمة ومفكريها ومثقفيها وفنانيها الكبار المبدعين، فأطلقنا عليهم (وفدا شعبيا).. اسألوا بريشت عن مفهوم القوة الناعمة أو مفهوم الشعب بمناسبة أنكم في ألمانيا.... لكن هل تعرفون بريشت؟! [email protected]