فى صومعته التى لا يدخلها غيره, جلس القاضى يطالع أوراق تلك القضية الغريبة التى ابتلى بها – على حد وصفه – فالمجنى عليها مومس, تربت فى كباريهات شارع الهرم ، وباعت جسدها طوعا لكل من هب ودب , بمقابل مادى تارة، وبالمجان لمزاجها الشخصى تارة أُخري, ومع ذلك فهى ضحية فى قضية اغتصاب, وهى أيضا من حرك الدعوي ضد الجانى! أما الجانى فهو مرشد.. لا, لا, ليس كما تظن يا صاحب الظن السيئ, فبطل حكايتنا واحد من هؤلاء الذين يستخدمهم «البوليس» ليرشد رجال الشرطة إلى المجرمين والجناة فى القضايا المختلفة, فهو إذن عين الحكومة الساهرة.. اخذ القاضى يضرب كفا بكف , ثم يهرش فى فروة رأسه، محاولا فك طلاسم ذاك اللغز الذى يدفع فتاة ليل لرفع دعوى قضائية، تتهم فيها أحد الأشخاص باغتصابها، رغم أنها يوما لم تمتنع عن مضاجعة هذا أو ذاك ، طالما يدفع المعلوم ويوفر المأوى، ولقمة تسد بها جوعتها, كما أن هذا المرشد هو صديق حميم لها، ولطالما نبهها إلى «كبسة» على المحل الذى تعمل فيها ، لتتخذ حذرها خشية القبض عليها, بل إنه كثيرا ما ضاجعها برضا وانبساط منها شخصيا!! هكذا ظل قاضى حكايتنا يفكر ويفكر طيلة الليل، غير انه سقط فريسة لسلطان النوم دون رغبته, ليستيقظ فيجد نفسه مرميا على «فوتيه» بصالة منزله, فدلف إلى المطبخ ليضع «كنكة» القهوة على الموقد – بوتاجاز يعنى – قبل أن يسرع إلى الحمام، ليأخذ «دش» باردا يستعد به لاستقبال يوم , يحسبه عصيبا, ففيه ينظر تلك القضية المعجزة , والتى شغلته، لدرجة انه نسى القهوة لتفور وتطفئ شعلة الموقد , لكنه أصر على أن يشربها، ولو بغير «وش», ثم ارتدى ملابسه وتوجه إلى المحكمة. خارج المحكمة كان المشهد مثيرا , فعدد الجماهير التى جاءت رغبة منها فى حضور المحاكمة أكبر مما يمكن أن تسعه القاعة, بينما مندوبو الصحف وكاميرات الفضائيات كان عددهم يفوق قدرة تلميذ نابه على العد. أما داخل القاعة .. فقد جلس المئات على الدكك الخشبية كل منهم يزنق الآخر، وكأننا داخل احد فصول مدرسة ام العش الابتدائية ، التى تضاهى عشش الفراخ فى رفاهيتها , وفجأة يظهر الحاجب بصوته الجهورى: محكمة.. فيتوقف الجميع عن الهمس لتدخل هيئة المحكمة واحدا تلو الآخر, فيجلس القاضى ومن حوله مساعدوه من مستشارين, بينما الجانى والمجنى عليها فى ذات نفس القفص، يرقبان الحضور فى مشهد سريالى معكوس, فيه المتفرج يلعب دور النجم ! القاضى, موجها كلامه ل«المومس» المجنى عليها: قولي لى يا سمر, اسمك أيه؟ المومس تحدث نفسها وهى تنظر بعينين يكسوهما الحول: يا دى النيلة اسمك أيه يا سمر.. « للقاضى» منى , اسمى منى يا بيه! القاضى: يا بيه؟.. لا من فضلك قولى يا حضرة القاضى.. المومس: حاضر يا حضرة القاضى.. القاضى: تسلميلى يا قمر.. إحم إحم.. "سورى", ما هو عملك يا سمر؟ المومس: سيدة أعمال.. القاضى: نعم يا روح أمك.. إحم إحم سورى, اقصد بتقولى أيه يا روح الست والدتك؟! المومس: يا جناب القاضى ما انتو عارفين كل حاجة , مش انتو الحكومة؟! القاضى: يعنى أنت تعترفين أنك مومس! المومس: لا مومس لا يا بيه.. أنا فتاة ليل، أو ساقطة ، ولا منحرفة زى ما بيكتبوا فى صفحة الحوادث. القاضى: المهم, أنت تتهمين عبده الجعر بأنه قام باغتصابك, هل أنت مصرة على هذا الاتهام؟ المومس: أى نعم.. مصرة.. القاضى: يا عينى على الفصاحة, لكن على كل حال قوليلى الصدق, لماذا تتهمينه هذا الاتهام مع انك مومس , او فتاة ليل كما تحبين, وسبق وان ضاجعك هذا المتهم غير مرة, بل انك سلمت جسدك لمعظم الرجال الذين عرفتيهم بمقابل وبدون؟! المومس: أيوه مصرة يا جناب القاضى, فكل المرات التى نمت فيها مع رجل كان الأمر يتم بموافقة الطرفين, هو يشتهى جسدى ، وأنا لا أمانع فى تقديم لحمى الرخيص له مادام سيدفع المقابل, وفى كثير من الأحيان كان الأمر معكوسا, فكنت اشتهى رجلا يروق لى، فادفع له أنا مقابل إمتاعى وبيعى الحب الزائف, بل لا أخفيك سرا إذا قلت إننى كثيرا ما دفعت لهذا الجعر أموالا مقابل مشاركتى الفراش! القاضى: إذن ماذا حدث ليجعلك تتهمينه باغتصابك؟ المومس: لأنه بالفعل اغتصبنى , وضاجعنى عنوة دون رغبتى, وأنا سمى وموتى أن تغصب على فى أى شيء.. القاضى: طيب انتظرى أنت يا سمر.. «للمتهم» قولى يا جعر, هل تعترف انك اغتصبت تلك المومس؟ الجعر: بصراحة آه.. القاضى: يا لبجاحتك, أو تعترف هكذا دون حياء أو خجل؟! الجعر: يعنى اكدب يا بيه؟! القاضى: لا .. عداك العيب يا نجم, لكن قولى بما أنك صريح هكذا, لماذا اغتصبتها وهى مومس ، وبينكم علاقات سابقة, فلماذا لم تطلب منها أن تضاجعك برغبتها فتعطيها مالا، أو تقدم لها خدمة ما فى المقابل؟ الجعر: ولماذا افعل ذلك وأنا "رجل" مكتمل الرجولة, فحل.. كما تروننى أمامكم, ولدى القوة والسلطة, كما أن كل الناس يعملون لى ألف حساب , و لو قلت لهم إن الشمس تشرق من الغرب يصدقوننى, ربما لخوفهم , لكن على كل حال لن يكذبنى منهم أحد, بينما لو قالت لهم تلك المومس إنها ولدت لأب وأم مثل باقى البشر لكذبوها, بل وطالبوا برجمها وكأنها الشيطان ذات نفسه! هنا ترتفع همهمات الحضور بين مؤيد ومعارض لكلام الجعر, لكنهم جميعا يتبادلون النظر لبعضهم البعض، وفى عيونهم ما يؤكد أنهم فى داخلهم يؤمنون تماما بأن كل ما نطق به هذا المرشد من كلام صحيح مائة بالمائة. القاضى: الحكم بعد المداولة .. الحاجب: رفعت الجلسة. خمس دقائق فقط تمر قبل أن يعاود القاضى وصحبه دخول القاعة, وبعد أن يجلس ويجلس الحضور, يمسك الرجل بالمطرقة الخشبية الصغيرة فيطرق بها مرتين أو ثلاثة على المنصة التى يجلس اليها ثم يبدأ فى تلاوة الحكم. القاضى: بعد الاطلاع علي أوراق القضية والاستماع لأقوال الشهود الذين ادعوا الخرس هربا من إجابة أى سؤال وجهته هيئة المحكمة الموقرة لهم, وبعد الاطلاع على القانون والدستور والحكم والأمثال الشعبية , وقر فى قلب المحكمة براءة المتهم والمجنى عليها وحكمنا بإعدام السادة الحضور.. رفعت الجلسة.