كنت سعيدة جدا على مدار الأيام الماضية؛ بسبب إنشاء موقع يستقبل بلاغات التحرّش من السيدات والفتيات http://harassmap.org/main، واعتبرتها خُطوة إيجابية جدا نحو تخطّي حاجز الصمت المنيع الذي وضعه مجتمعنا أمام هذا النوع من الجرائم، بداية من التحرّش، مرورا بهتك العرض، نهاية بالاغتصاب، الذي ما زال في ذيل القائمة، فما زال الوقت أمامه طويلا لكي نتحدّث عنه، دون أن نخشى نبذ واحتقار المجتمع، لكن في الوقت نفسه كان هناك ضوء أخضر من تونس يقول إن هناك أملا وفرصا أمامنا لكي نتحدّث عن همومنا نحن المصريين، بشأن الاغتصاب مثلما حدث مع التحرش.. هذا ما أريد التحدّث بشأنه في السطور التالية... في تقرير نشرته محطة "دويتشه فيله" الألمانية بعنوان "تونسيات يكسرن جدار الصمت حول العنف الجنسي" يتناول حملة أقامها مجموعة من النشطاء والحقوقيين في تونس؛ لمناهضة ظاهرة العنف الجنسي ضد المرأة، والدعوة للنهوض بالحقوق الجنسية والجسدية للمرأة، واختارت هذه المنظّمة النسوية عنوانا لحملتها "لنسقط القناع حول العنف الجنسي"، وعرضت من خلال ندوتها تجربة سيدة تونسية في الثلاثين من عمرها تعرّضت للاغتصاب من خمسة رجال، تداولوا على جسدها ليلة كاملة تحت التهديد بتشويه وجهها، وقالت محاميتها إن مرارة الاغتصاب لها تضاعفت مع "ظلم القضاء" الذي احتسب القضية على أنها قضية بغاء، وأن الشابة "ج. ر" التي تركها صديقها بعد أن اصطحبته لمنزله تستحقّ أن تُحاسب ما دامت قد قبلت معاشرته خارج إطار رابط شرعي. وتابعت أن الملف القضائي لهذه المرأة تضمّن شهادات طبية تُؤكّد تعرّضها للعنف الجنسي، لكن المحكمة لم تُنصفها وعاقبتها مثل ما عاقبت مغتصبيها. وبالرغم من أن محامية هذه السيدة التونسية لم تقُل بشكل واضح ما هي العقوبة بالضبط التي أقرّتها المحكمة على المجني عليها، فإنها تستحق أن نقف أمامها، ونطابقها على واقعنا هنا في مصر؛ فالمجتمع يُصدِر أحكاما أيضا على مَن تعرّضت للاغتصاب بداية من النبذ والاحتقار -إذا كانت حسنة الحظ- وتوجيه اللوم لها من الأصل على اغتصابها مع أنها المجني عليها! إلى القتل في بعض المناطق مثل الصعيد؛ بحجة الدفاع عن الشرف الذي تلوّث على يد الفتاة، ناهيك عن أن المحكمة نفسها تُصدر أحيانا أحكاما مخفّفة على الجاني إذا كانت الفتاة غير محجّبة، أو كانت تسير ليلا أو تجلس مع خطيبها في السيارة مثلا، مثلما حدث مع السيدة التونسية، أو مع تلك الفتاة السعودية التي عُرِفت ب"فتاة القطيف".. ففي أكتوبر من عام 2006 تعرَّضت فتاة سعودية متزوّجة تبلغ من العمر 19 عاما لعملية اغتصاب جماعي على يد 10 من السعوديين، اختطفوها من السيارة مع زميل سابق في المدرسة، وأرغموهما على التوجّه إلى منطقة نائية، واعتدى عليها الرجال السبعة، بينما قام ثلاثة من المهاجمين بالاعتداء على زميلها. فما كان من القاضي السعودي إلا أن اتهم أربعة من المهاجمين بالاختطاف، بينما حكم على الفتاة وزميلها في السيارة بالجلد 90 جلدة؛ بسبب تواجدهما سويا في السيارة، ولدى استئناف الحكم من قِبَل الفتاة ضاعفت محكمة الاستئناف الحكم، ورفعت عدد الجلدات إلى 200 جلدة والسجن ستة أشهر. ووقتها أدانت هيلاري كلينتون -المرشّحة لرئاسة الولاياتالمتحدة آنذاك- الحكم، وطلبت من الرئيس بوش الضغط على الملك عبد الله لإلغاء الحكم، بعد أن وصفت الحكم بأنه مثير للاشمئزاز، لكن وقتها رفض بوش الحديث مع العاهل السعودي بشأن الموضوع؛ بحجّة عدم التدخّل في الشئون الداخلية للمملكة!! لكن اللافت للنظر في الموضوع فعلا - فضلا عن أن الاستئناف من جانب الفتاة ضاعف الحكم بدلا من تخفيفه- هو أن المحكمة لم تُدِن سوى أربعة فقط بالاختطاف وليس الاغتصاب -وعقوبته الإعدام في المملكة- بحجة عدم وجود شهود، ونفْي المتهمين لهذه التهمة!! لا يوجد هناك شكّ في أن هاتين التجربتين مؤلمتان، إلا أن بهما مؤشرات بأنه يجب الإبلاغ عن جرائم الاغتصاب، حتى لو أنه سيكون مصحوبا بضريبة قاسية، مثلما حدث في تونس والسعودية، إلا أنه أفضل من السكوت وإعطاء الفرصة تلو الأخرى للمجرمين للهرب، والاستفادة من جدار الصمت المحيط بجرائم الاغتصاب في الشرق الأوسط، وخاصة الدول العربية. هناك حادثة أخرى أتصوّرها أكثر قسوة وإيلاما، ولكنها من هناك.. من باكستان، لسيدة تُدعى "مختار مي" أمرت السلطات المحلية باغتصابها عام 2002، بعد أن عاشر أخوها امرأة تنتمي إلى أسرة أكثر رقياً من عائلته، وبعدها أخلت المحكمة العليا سبيل الرجال ال13 الذين اغتصبوها. وبسبب الظلم الذي تعرّضت له من السلطات المحلية خرجت لتعرض قضيتها على المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، فقالت أمامهم: "إني أناضل من أجل منع القمع، منع قمع النساء والفقراء من قبل الأسياد الإقطاعيين في باكستان". وتحدّثت عن مأساتها أمام الكونجرس الأمريكي، مشدّدة على على أنها تمثل أعدادا كبيرة من النساء الباكستانيات اللاتي يحتجن إلى الدعم في صراعهن ضدّ القمع في بلدهن، ووقتها -بعد أن هزت العالم بقصّتها- مُنحت جائزة "امرأة العام"، وقدّمتها منظمة العفو الدولية كبطلة في النضال من أجل حقوق المرأة، واتخذت من قضيتها ومأساتها وسيلة للتنديد بما يحدث لمثيلاتها في باكستان. هذا هو النموذج الذي أريد أن يصبح لدينا مثله، نموذج الهروب من الصمت والتلذّذ بدور الضحية، والتشدّق بأنه ليس في الإمكان أكثر من الصمت؛ خوفا من الفضيحة والنبذ؛ فالفضيحة الحقيقية هي في الصمت، والمشاركة الضمنية في تعرّض غيرها لما تعرّضت له هي، من ظلم وقسوة باسم السلطات التي منحت مغتصبيها الحرية. طبعا سيُطل برأسه الآن من بين سطوري شخص أعرفه، ليقول لي إن تلك التقاليد التي نرفضها متغلغلة لدينا، ولن نستطيع أن نغيّرها ولو بعد مائة عام. سأقول له إذا أردنا سنختصر المائة عام في عدد أقل من السنوات، إذا فكّرنا بعقول متفتحة وليس بعقل يقدّس ثقافة القطيع في تنفيذ كل ما تعارف عليه الناس دون محاولة التمرّد عليه، وإذا شجّعنا الفتيات والنساء على أن يتحدّثن ويُبلغن مهما كانت النتائج قاسية؛ فسنضع المجتمع أمام حقيقة أن هناك العشرات من الفتيات يعشن في حجيم لم يصنعنَه، بل تسبّب فيه مجرم حُرّ بفعل ثقافة تحمي الجاني، وتنبش مخالبها في المجني عليه.. إذا شجعناهن على أن يتحدثن سنُحدث صدمة لمجتمع لا يدري أن معدل 55 امرأة تتعرض للاغتصاب يومياً -حسب وزارة الداخلية- مع الوضع في الاعتبار أن الرقم الحقيقي قد يكون أعلى من ذلك بكثير؛ لأن الخوف من العار يحول دون تبليغ الضحايا عن حوادث الاغتصاب التي يتعرضن لها. لديّ حلم أتمنى أن أراه يتحقّق.. أن يكون هناك من بيننا من يجوب القرى والنجوع؛ ليتحدّث إلى الناس ويساعدهم على التخلّي عن ثقافة الإنكار التي تتوارى تحت شعارات وكلمات نبيلة، مثل: الستر، وعدم الفضيحة، وتغليب مصلحة الأسرة أو العشيرة أو الجماعة على حساب نفسية الأفراد.. إن علينا الآن وليس بعد مائة عام أن نتوقّف على تشجيع بعضنا على السكوت؛ لأن الضحية لن تستطيع أن تتكلّم، بل عليها أن تدفع الثمن من صمتها.. بل لا تتكلمّ بشيء سوى أن تدعو على نفسها بالموت العاجل. أتدري.. لقد تذكرت الآن تلك القصيدة لنزار قباني بعنوان "امرأة حمقاء" التي يقول فيها: يا سيدي قل ما تريده عني فلن أبالي.. سطحية، غبية، مجنونة، بلهاء.. فلم أعد أبالي لأن من تكتب عن همومها.. في منطق الرجال امرأة حمقاء.. أتمنّى من كل فتاة تعرّضت لإيذاء أيا كان نوعه أن تتحدّث.. أن تكتب.. أن تشكو، ولا تهتمّ إذا قال عنها الرجل أو المجتمع امرأة حمقاء؛ فالحقيقة التي أؤمن بها أن من يستنكر امرأة تتحدّث وتريد أن تأخذ حقها ممن سلبها كرامتها وأمنها، يحترمها بداخله ويقدّرها، ويتمنى لو كان مثلها يستطيع أن يواجه المجتمع مهما كان حكمه قاسيا.