من منا لا يذوب عشقا في الفن الشعبي؟ فهو من وحي الواقع المصري، يعبر عن أبنائه، بالتأكيد لا نقصد هنا أغاني «اليومين دول»، وإنما أغانى الزمن الجميل، حين أبدع عدوية ورشدي والعزبي وقنديل، ومن قبلهم عبد المطلب، لكن كعادة عوامل التعرية، لا تترك شيئا على حاله، فجرفت الفن الشعبي، ليتبقى منه حاليا أقبحه. الأغاني الشعبية الحديثة، يقودها جيل يعرفها باسم «المهرجانات»؛ حيث الصخب غير المفهوم والكلمات التي يعف القلم عن كتابتها فهى تصل لحد الإباحية، فكان منطقيا أن تؤثر بشكل سلبى على فئات كثيرة من المجتمع، وسرعان ما انتشرت بين الشباب والمراهقين وحتى الأطفال لم يسلموا منها، وباتت كلماتها «لازمة» في أفواه الجميع، في الأفراح والحفلات المختلفة، سواء في الأحياء الشعبية أو الراقية. خطورة تلك الأغاني لا ينسحب على سماعها فقط، فالأمر جد خطير على سلوكيات المجتمع والذوق العام، وهو ما يحدثنا عنه الدكتور سعيد توفيق - أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بآداب القاهرة – قائلا «الفترة الحالية تشهد حالة من الابتذال فيما يقدم باسم الفن، والفن منه بريء، فعن استخدام للعري والألفاظ الإباحية في الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية حدث ولا حرج، لأنها تجذب الجمهور إلى المشهد، وبدلا من أن يرتقى هؤلاء المخرجون والمؤلفون بالفن هبطوا به إلى الحضيض». مستوى الأغاني الشعبية - في تقييم الدكتور توفيق - يختلف كثيرا بين الماضي والحاضر، لصالح الأول، سواء بين المطربين أو اختيار الكلمات وحسن التعبير عن الواقع، كما فعل الفنانون محمد عبد المطلب ومحمد العزبى ومحمد رشدى، حينما كانت الأغانى تصاغ بالعامية، وتعتمد على إيقاعات موسيقية ذات تأثير إيجابي على المجتمع، بخلاف الوقت الحالي الذي يشهد تدهورا بالغا في اللغة، وسوء اختيار الكلمات التي لا تدل على أي معنى. تاريخ بدء تدهور الأغاني الشعبية حدده «توفيق» بظهور المطرب ريكو ومن بعده سعد الصغير وبعرور، ليمتد حتى فريق «أوكا وأورتيجا» والمهرجانات باستخدام إيقاع موحد لا يتغير، وكلمات هزلية لا تحتوي على نغمات شعرية على الإطلاق. «كسريان النار في الهشيم»، شبه أستاذ علم الجمال انتشار الأغاني الهابطة المعروفة ب «المهرجانات» داخل المجتمع المصري، لدرجة أنه نادرا ما تخلو منها المواصلات العامة، فمطربوها يتعمدون ترويجها داخل «الميكروباصات» والأماكن العامة لكى يتأثر بها المجتمع، خاصة فئة الشباب، وبطبيعة الحال تعتاد الأذن ما تسمعه، فما بالك عندما تختفي الأغانى الشعبية الراقية. وأشار توفيق بأصابع الاتهام نحو تجاهل المجتمع التعليم الفنى في كل المراحل التعليمية، ما أثمر عن فن رديء أدى إلى تدهور الوعى الفنى وعلم الجمال، لذلك نشأ جيل من الشباب ليس لديه وعى فني، وإن كان في فترات سابقة يتم تخصيص مادة خاصة بالموسيقى، لتنمية الوعى لدى الطلاب، وكان هناك مسرح لتعليم التمثيل لكي ينشأ جيل لديه الوعي الكامل من الثقافة والفن، لكن في الفترات الحالية لم يتوفر هذا داخل المدارس، بل اختفى تماما. الحل كما يراه أستاذ علم الجمال، يكمن في تعاون مشترك وتوقيع بروتوكولات بين وزارات التربية والتعليم والتعليم العالى والشباب والرياضة والثقافة، لكي يتم تطوير منظومة الفن والجمال في المجتمع، وأيضا تنظيم ورش عمل يشارك فيها الشباب لمحاربة الفن الهابط، وإقامة حفلات موسيقية تصحح ذوق طلاب الجامعات، مؤكدا أن استخدام الألفاظ والعبارات السوقية لا يقتصر فقط على الأغاني الشعبية، بل امتد للأغاني العاطفية، فباتت تحتوي على كلمات ركيكة مبتذلة، وعبارات سوقية، على النقيض من أيام الزمن الجميل، حين كانت تناقش قضايا المجتمع بشكل إيجابى وواضح، مثلما أبدع الشاعر أحمد رامى بأغانيه لكوكب الشرق أم كلثوم. وعول على تبني مؤسسات الدولة فكرة النهوض بالفن وتطويره وإحياء التراث الشعب بعد أن شهد تدهورا حادا في العصر الحالي، ويمكن أن تساهم قصور الثقافة بشكل كبير في تشكيل الوعي الفنى لدى الشباب حتى الكبار في سائر ربوع مصر؛ لأن لديها إمكانيات وبنية تحتية في أنحاء الجمهورية، كما أن دار الأوبرا المصرية ينبغي أن تتخلى عن الفكرة السائدة فيها، وهى تقديم الفن والموسيقى لطبقة معينة مخملية «المرفهة»، وتتبنى إستراتيجية لتوصيل الموسيقى لكل أفراد الشعب خاصة الطلاب والشباب. وشدد توفيق، على أهمية أن تعود «الأوبرا» مركزا للثقافة كما كانت في الأصل، تخدم كل أطياف المجتمع بدلا من اقتصارها على «أصحاب البدل والفساتين».