غاب عن دنيانا منذ 32 عامًا وما زال حاضرًا فى وجدان الوطن، حيث نال شرف البطولة فى حرب أكتوبر التى أعادت العزة والكرامة لمصر والعرب، كرمه الرئيس السادات، مثنيا على دوره البطولى تحت قبة البرلمان، ودار بينه وبين السادات حوار أعرب له الأخير فى نهايته عن تقدير الوطن كله لبطولته، ولقيادته لقواته التى ضربت أروع أمثلة البطولة والفداء والصمود والتحدى، وقال عنه المؤرخ الأمريكى "ديبوى" أن الإسرائيليين أنفسهم كانوا يرون فيه أقدر وأكفأ القادة العسكريين الذين واجهوهم فى حرب أكتوبر.. أنه المشير أحمد بدوى، الذى استشهد عام 1981، قبل ستة أشهر من اغتيال السادات، تحاورنا مع نجله إيهاب الوزير المفوض بوزارة الخارجية، وكان الحوار ممزوجًا بمشاعر الأسى والفخر، لأن الأب الذى غاب عنه صغيرا، ترك رصيدا من العطاء، مسجلا بأحرف من نور فى لوحة الشرف للمؤسسة العسكرية العريقة.. فإلى نص الحوار - كم كان عمرك فى وقت وقوع الحادثة.. وكيف تلقت الأسرة نبأ استشهاده؟ * كان عمرى 15سنة، كانت والدتى رحمها الله قد ذهبت إلى منزل والديها المجاور للاطمئنان عليهما، وكنت أنا بالمنزل، وفى حدود الساعة السادسة مساء دق جرس تليفون البيت وبالصدفة كنت أول من سارع بالرد لأجد السيد اللواء محمد السعيد صالح مدير مكتب الوالد يسألنى عن رقم تليفون جدى لوالدتى، وقد ساورنى القلق أثناء إعطائه الرقم وسألته "خير يا أفندم فيه حاجة"، فرد على بهدوء قائلا لا بس كنا عايزين نتصل بيه"، لا أدرى لماذا وجدتنى قد قررت التوجه لمنزل جدى، وعلى الفور سارعت إلى بيت جدى لإحساسى بأن أمرا خطيرا قد حدث، وهناك كانت الصدمة ليحتضننى جدى حضنا طويلا لم أفهم مغزاه إلا وباقى أقربائى يتناوبون احتضانى والدموع فى أعينهم، وكان والدى رحمه الله قد اتصل بى هاتفيًا صباح يوم الحادث للسؤال على وعلى والدتى، وطالبنى بالانتهاء من مذاكرتى مبكرا، لأنه لن يذهب إلى المكتب بعد انتهاء المهمة فى سيوة، وأنه سيتناول العشاء معنا بالمنزل، إلا أن إرادة الله جاءت بغير ذلك، لتكتب لوالدى الشهادة، التى كان يتمناها، وهو على رأس المؤسسة العسكرية، التى أحبها وأفنى فيها حياته، كانت صدمة هائلة لى فقد كان الأب الحنون والصديق والمثل الأعلى والقدوة الحسنة والمرجعية ومصدر الفخر والاعتزاز. - ما هى ملامح وصفات المشير بدوى.. وماذا تعلمت منه؟ * من الصعب أن تتحدث عن مثلك الأعلى بموضوعية، إلا أننى سأحاول.. لقد تعلمت منه أخلاقه وتواضعه، العناد فى الحق، الانضباط والالتزام، وحب هذا الوطن؛ فعلى مستوى العمل علمت ممن عملوا معه حرصه الدائم على التواجد مع جنوده، يتحاور معهم ويستمع إلى شكواهم ومشاكلهم ويسعى لحلها، فكان شديد الاهتمام بالبعد الإنسانى فى علاقته بجنوده، مؤمنا بضرورة أن يعامل الجندى معاملة إنسانية آدمية، وأذكر أننى مرة تطاولت وأنا عمرى10سنوات على "المراسلة الخاص به"وهو قائد للجيش الثالث، وقد شكانى لوالدى، فكان أن استدعانى، ولم ينته الأمر إلا بقبول الجندى لاعتذارى، وعلى المستوى الاجتماعى كان شديد الحرص على التواصل مع الأهل والأقارب، وبصفة خاصة إخوته، حيث كان يعتبر نفسه والدهم بوفاة هذا الأخير، كان جريئا عنيدا فى الحق، لا يخشى لومة لائم، كما كان زاهدا، فرفض الانتقال للسكن الوظيفى، سواء حينما تولى منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة أو وزير الدفاع، مفضلا العيش فى شقة الزوجية.. كان صارمًا شديد الانضباط والالتزام وحنونا شديد الإنسانية فى آن واحد. - هل تتذكر أول زيارة قام بها المشير بدوى للمنزل عقب انتصار أكتوبر؟ * نعم أتذكر أول زيارة له للمنزل، والتى جاءت متزامنة مع حفل تكريم الأبطال بمجلس الشعب يوم 19 فبراير 1974 الذى شاهدته على التليفزيون مع أقاربى، وكنت فخورا ومزهوا به، كقائد عسكرى يكرمه وطنه، ممثلا فى برلمانه ورئيسه "الرئيس السادات" رحمه الله، بصفته بطل من أبطال العبور والنصر، ولمست فى الأيام التالية حجم الإنجاز والبطولة التى حققها والدى، من خلال مشاعر الفخر والتقدير والامتنان التى عبر عنها كل من عرفته حينئذ من تلاميذ ومدرسين وجيران وأقارب وزملاء لوالدى.. وقتها أدركت قيمة ما قدمه والدى رحمه الله لوطنه، وتقدير الوطن له ولبطولته. - فى كتاب "الحروب الإسرائيلية " قال مؤرخه إن المشير أحمد إسماعيل على وزير الحربية وقتها كان يثق ثقة عالية فى الوالد، فضلا عن اعتراف قادة إسرائيل بأنه أصعب قائد فرقة واجهتهم.. ما تعليقك؟ * ذكر لى زملاء الوالد المعاصرون له فى الخدمة أن المشير أحمد إسماعيل كان لديه ثقة كبيرة فى الوالد رحمه الله، وهو ما يدللون عليه بتكليف فرقته السابعة المشاه خلال حرب أكتوبر بالدفع فى نطاق المجهود الرئيسى للجيش الثالث الميدانى، وهى الفرقة التى خسرت أمامها إسرائيل أحد أهم قادتها خلال حرب 1973 وهو "البرت ماندلر" قائد الجبهة الجنوبية، وكان لحصار "موقع كبريت" علاقة بتلك الثقة، فعقب محاصرة المقع اتصل المشير إسماعيل بالوالدأ وأوضح له أنه جارى التفاوض مع الجانب الإسرائيلى على تفاصيل أجلاء "موقع كبريت"، نظرا لمعاناته من نقص الأسحلة والذخائر والطعام والماء، وتعرضه لهجمات شرسة من إسرائيل، لكن الوالد طلب من المشير إسماعيل مهلة 48 ساعة ليدلى برأيه فى ذلك الشأن، إلا أنه قبل انتهاء تلك المهلة بساعات اتصل والدى بالقائد العام، مبلغا إياه بأنه تم تزويد ودعم الموقع بالاحتياجات اللازمة، وأنه مستعد للقتال، وكرر والدى رحمه الله أكثر من مرة "أيوه يا أفندم تم الإمداد"، وذلك ردا على أسئلة المشير إسماعيل المتكررة فى هذا الشأن، وبالفعل اشتبكت قوة "موقع كبريت" مع العدو، وضرب قائده الشهيد والبطل العظيم إبراهيم عبد التواب وجنوده أروع الأمثلة فى البطولة والتضحية، وأما بالنسبة لقوات بدر بوجه عام، والتى كانت تحت قيادة المرحوم والدى، فقد قام المشير أحمد إسماعيل بزيارتها فور رفع الحصار، وخاطب أفرادها مثمنا ما قدموه من تضحيات وبطولات، وكما تعلم فإن تلك القوات، وبعد أن نفذت العبور، واحتلت مواقعها الجديدة المحررة على الضفة الشرقية، إنما كان عليها أن تتحمل تبعات الثغرة التى وقعت فى نطاق الجيش الثانى، بعد قتال ضار وجهود مستميتة فى صدها، وظلت تحت الحصار طيلة ما يناهز ال 140 يوما، وفى ظروف قتالية صعبة، إلا أنها لم تكتف بالصمود، دون أى إمدادات، بل عدلت من مواقعها وكسبت أراضي جديدة، ولقد كان هذا البلاء محل تقدير القائد العام، والذى عبر عنه لوالدى بشكل مباشر أو من خلال العديد من الخطب التى ألقاها فى مناسبات عدة فى أعقاب الحرب، وغنى عن البيان أنه إذا لم تكن تلك القوات - التى كانت فى ظروف قتالية صعبة - أبلت بلاؤها هذا، وبدلا من ذلك هزمت أو استسلمت، فإننا ما كنا سنتناول اليوم نصر أكتوبر على نفس النحو. - تقلد المشير بدوى منصب وزير الدفاع، وشاءت الأقدار الفاصلة أن تكون المسافة الزمنية بين استشهاده واستشهاد الرئيس السادات 6 شهور فقط.. كيف كان شكل العلاقة بين والدك والرئيس السادات؟ * كانت العلاقة بين الوالد والرئيس السادات علاقة تقدير وإعجاب متبادل، ومن الجدير بالذكر أنه فى أعقاب نكسة 1967 كانت توجد تخوفات من أن تقوم الدفعة 48 أو "دفعة شمس بدران" التى كان ينتمى إليها الوالد رحمه الله بالإطاحة بالرئيس عبد الناصر، تم اعتقال هذه الدفعة لفترة محددة، ثم تم إحالتها للتقاعد بعد ذلك.. وقتها اتجه والدى للدراسة بكلية التجارة، وشرع فى استصدار سجل تجارى للبدء فى نشاطه المدنى، إلا أن الرئيس السادات استدعاه مع آخرين، وأعاده للخدمة، فى إطار الإعداد للحرب، واختياره لقيادات الجيش الذين سيخوض الحرب بهم، وعقب الحرب - التى قام الرئيس السادات بترقية والدى اثنائها وعينه قائدًا للجيش الثالث وهو فى الحصار- تم منح والدى "نجمة الشرف العسكرية"، ثم تكريم الرئيس السادات له فى جلسة تاريخية بمجلس الشعب، حيث خاطب الشعب وأعضاءه وقتها قائلا "للجيش الثالث الذى ضرب أروع المثل فى البطولة والتضحية والفداء، ولقائده أحمد بدوى تقديرى وتقديركم جميعًا، تعبيرا عن تقدير الوطن كله"، واستمر تصعيد الرئيس السادات لوالدى ليعينه رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة، فوزيرا للدفاع. - لكن أحد الكتاب الأمريكان قال وقتها إن رحيل المشير بدوى، ثم الرئيس السادات، كان من شأنه صعود نجمى أبو غزالة ومبارك.. ما تعليقك؟ * جرى العرف أن يكون رئيس أركان حرب القوات المسلحة من أقوى المرشحين لخلافة وزير الدفاع، مثلما جرى عرفنا السياسى على أن يخلف الرئيس نائبه، فكان من الطبيعى أن يخلف المشير أبو غزالة والدى، وأن يخلف الرئيس السابق الرئيس السادات. - ذكرت أن الرئيس السادات كان محبا للمشير بدوى وواثقا فيه، لكن المشير كان يقف فى وجهه العديد من صفقات السلاح.. ففى من تشك؟ * الشك من الصفات الإنسانية بطبيعة الحال، إلا أنه يلزمك الأدلة، فالاتهامات لا تلقى جزافا، وتوجد لدى من الأسباب المقنعة أن الحادث قضاء وقدر، وأيضا لدى الأسباب المقنعة أن الحادث مدبر.. أنا شخصيا مقتنع بأن الرئيس السادات كان يكفيه استبداله بأى وزير دفاع آخر، لاسيما أنه قام باستبدال وزراء دفاع قبله، بما فيهم من وعدهم بالبقاء مدى الحياة فى الوزارة. أما بالنسبة لوقوفه فى وجه بعض الممارسات، فمن المؤكد أن وقوف أحمد بدوى فى وجه عدد من الممارسات فى صفقات السلاح قد يدفع بنا إلى الشك فى المستفيدين، لكن تلزمنا فى ذلك أدلة، والاتهامات لا تلقى جزافا.. أما إرجاع سقوط طائرة وزير دفاع مصر لحمولة زائدة من البلح والزيتون، فكان من الأمور التى طالما دفعتنى للتفكير فى إمكانية أن يكون الحادث مدبرا، فعدادات الطائرة وتعليمات الطيران تفرض على قائد الطائرة عدم الإقلاع بحمولة زائدة، فضلا عن خوفه هو شخصيا على حياته، بغض النظر عن التعليمات، إلا أنه منذ أن وقعت الحادثة، فمهما تدافعت فى ذهنى نظريات المؤامرة، فاإننى أجد المنطق يفرض على استحالة تصور مثل ذلك، مهما كانت الأسباب - لاسيما بعد كل ما قدم للوطن. - فى تقديرك.. لماذا أتى الرئيس السادات بالوالد قائدا عاما وزيرا للدفاع بعد حرب أكتوبر؟ * فى تقديرى المتواضع، وغير المتخصص، أنه بعد الجهود المستميته، والقتال الضارى لقوات الجيش الثانى فى مواجهة القوات الإسرائيلية، ونجاح الأخيرة فى النهاية بالقيام بالثغرة، وتوجهها فيما بعد جنوباُ لتطويق الجيش الثالث، وحصار قواته فى الشرق، "قوات بدر"، فإن جزء كبيرا من مصير هذه المعجزة العسكرية بات مرتبطا بقدرة القوات المحاصرة على الصمود، بما يضمن تحقيق هذا النصر الغالى، والقريب إلى قلوب المصريين جميعا، وعلى رأسهم الرئيس السادات، الذى طالما عبر عن تقديره للدور الذى قام به المرحوم والدى وقواته فى حرب 1973. يضاف إلى ما تقدم ما قرأته بأحد الكتب الغربية أنه بعد قرار الرئيس السادات بتعيين بطلى أكتوبر الجمسى ومحمد على فهمى فى مناصب جديدة، فإن معطيات مرحلة السلام جاءت بأحمد بدوى على رأس المؤسسة العسكرية فى تلك المرحلة الحساسة، كبطل من أبطال أكتوبر، ممن لهم شعبية قوية بتلك المؤسسة، وبما يضمن تماسكها وتوحدها فى الرؤية والهدف فى مرحلة السلام. - ما حقيقة أن المشير بدوى قام ببناء وحدات سكنية للضباط والأفراد، وتحقيق الاكتفاء الذاتى من المنتجات الغذائية؟ * حقيقة، كان مؤمنا بأن القوات المسلحة بما لديها من إمكانيات ضخمة، لها دور إضافى فى وقت السلام، إلى جانب حفاظها على قدراتها القتالية، كما كان مقتنعا بأنه آن الأوان كى تحاول القوات المسلحة أن تسد جزءا من الدين للشعب، الذى حرم نفسه من الكثير لصالح المجهود الحربى لعقود طويلة. وطبقا للقريبين منه من العسكريين، فقد عرض على الرئيس السادات دخول القوات المسلحة فى عدد من المشروعات الخدمية والأنشطة الاقتصادية، كإصلاح شبكة الاتصالات والتليفونات، وإنشاء الكبارى والطرق، وتوفير العديد من احتياجات وزارتى التربية والتعليم والتعليم العالى، فضلًا عن تحقيق الاكتفاء الذاتى للقوات المسلحة من المنتجات الغذائية، تاركة استهلاكها من تلك المنتجات للسوق والمجتمع المدنى. كان الوالد رحمه الله مقتنعا بتلازم الحقوق والواجبات، فإذا أريد من الضابط والجندى أن يؤدى عمله وواجباته على أكمل وجه، فإنه يتوجب حصوله على حقوقه كاملة، وأن يشعر بأنه محل تقدير واهتمام رؤسائه ووطنه.. فكان مؤمنا بأهمية توفير المسكن اللائق للضباط وضباط الصف، فبدأت فى عهده مشروعات إسكان ضباط القوات المسلحة، مثل مشروع مدينة التوفيق للضباط العاملين، ومدينة إسكان ضباط الصف بجسر السويس، وهى المشروعات التى كانت تخصص من خلالها الوحدات السكنية للضباط، نظير جزء من الراتب. ونجح فى عرض الأمر على الرئيس السادات فى عدد من المشروعات الخدمية والأنشطة الاقتصادية من بناء الوحدات السكنية لأفراد القوات المسلحة، وكذلك تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الغذائية للمجتمع المدنى غير القادر على توفيرها. - أخيرا؛ كيف يحيى السفير إيهاب الابن الوحيد نجل المشير ذكرى وفاته؟ * دمعت عيناه وصمت برهه من الوقت.. وعاد بشريط الذكريات قائلًا: أبدأ يومى بالذهاب مع أسرتى إلى مقابر شهداء القوات المسلحة، لنقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة، ثم أحكى لأحفاده عن فخرى به، كمقاتل حارب كافة حروبنا المعاصرة، منذ حرب 1948 وحتى حرب 1973، وكيف أنه أجبر قادة إسرائيل على احترامه، كشخصية وقيادة عسكرية، فضلا عن نيله ثقة قادته وشعبه، حتى كرمه الوطن ومنحه أرفع الأوسمة، قبل أن يصبح وزيرًا للدفاع فى مرحلة مهمة من تاريخنا المعاصر.. فخر وشرف كبير أن أحمل هذا الاسم الذى يفرض فى المقابل مسئولية كبيرة، أتمنى أن يقدرنى الله على حملها، تكريما لذكرى والدى رحمه الله.