قبل أشهر قليلة.. كانت الحاجة "هدية" أسعد نساء أهل قريتها البسيطة بمحافظة الشرقية.. ولما لا وقد رزقها الله زوجا كريما.. و5 أبناء أوفياء.. وابنتين تُسر لرؤيتهما العيون.. وفجأة تبدد كل شىء.. مات زوجها محسورا مقهورا بعد خلاف مع أبناء شقيقه على الميراث.. وقُتل أحسن أولادها على يد ابن عمه.. ومات اثنين من الأبناء محترقين عندما أرادا الثأر لأخيهما.. وبقيت هى وباقى الأبناء يتجرعون كؤوس المرارة والحزن.. يتجولون فى المنزل ويتذكرون أيامه العامرة ويزرفون دموع الحسرة والألم.. محقق "فيتو" انتقل الى قرية "السلطان حسن" التابعة لمركز ابو كبير.. وهناك التقى الأم الثكلى وابنها الأكبر وسمع منهما حكايات وتفاصيل أغرب من الخيال، يرويها فى السطور التالية: سأل المحقق عن أصل الحكاية.. فأجاب الابن الأكبر "احمد": "المشكلة بدأت عقب وفاة جدنا لوالدى، تاركا منزلا ميراثا لأولاده الخمسة (ثلاثة ذكور وبنتين)، فاشترى والدى نصيب شقيقتيه وشقيقه الأكبر، بينما بقي ميراث اخيه "أحمد" الذي آل إلى أبنائه بعد وفاته منذ 6 سنوات، وهو لا يزيد على 50 مترا مربعا، استبعدها والدى وأعاد بناء المنزل بالمسلح.. وبعد وفاة عمى بفترة أراد أبناؤه بيع ميراثهم، رافضين بيعه لنا ومن هنا بدأت الخلافات والمشاكل، وعلي إثرها أصيب والدى بنزيف في المخ، أدى لدخوله فى غيبوبة لمدة ثمانية أشهر، وطفنا به على جميع المستشفيات والأطباء، ولكنه توفى قبل اكثر من شهرين، فازدادت الضغينة بيننا وبين أبناء عمى". تدخلت الام الثكلى فى الحديث موضحة: " على فراش مرضه.. أوصى زوجى بمنع ابن شقيقه "تامر" من السير فى جنازته او المشاركة فى عزائه.. ونفذ أولادى الوصية ورفضوا تقبل العزاء منه عندما جاء الى السرادق ليلا.. وقبل انصرافه راح يهددهم ويتوعدهم بسوء العاقبة امام الناس جميعا.. بدأ فى مضايقة أولادى خصوصا "هانى" الذى يعمل فى صالون حلاقة مجاور للمنزل، وكلما مر عليه يسبه ويشتمه ويحاول استفزازه، وكان هانى لا يعيره أى اهتمام ولا يرد عليه".. صمتت الام عن الكلام وانخرطت فى بكاء مرير قبل ان تستطرد: " صباح اليوم المشئوم تناول هانى معى الإفطار وخرج للعمل فى صالون الحلاقة كما هى عادته كل يوم.. بعد نحو الساعتين سمعت صوت صراخ واستغاثات.. انقبض قلبى وحدثنى بأن مكروها حدث لابنى.. ثم فوجئت بابنى الأصغر حسام ذي السنوات السبع، يدخل المنزل مذعورا وهو يقول : "الحقى يا ماما.. تامر ضرب هانى بالمسدس فى راسه وهرب بالموتوسيكل".. وقعت الكلمات على مسامعى كالصاعقة وهرعت الى مكان الحادث، لتصطدم عيناى بجسد ابنى ممددا على الارض وسط بركة من الدماء.. احتضنت رأسه وناديت عليه بأعلى صوتى.. ناجيته بصوت خافت.. طلبت منه ان يرد علىَ لكنه لم يجب.. فاضت روحه إلى بارئها وترك لى الحسرة والألم".. عادت الأم الى صمتها القليل ثم واصلت: "هانى تخرج هذا العام فى كلية اللغة العربية جامعة الأزهر، وكنا نستعد لزفافه على خطيبته بعد عيد الأضحى مباشرة، إلا ان المجرم اغتال فرحته، وبدلا من الزفاف الى عروسه.. زُفت روحه الى السماء". تهدج صوت الأم بالبكاء مرة أخرى وأطلقت العنان لدموعها فانهمرت غزيرة.. انتظر المحقق حتى هدأت وسألها: "وماذا عن ابنيك الآخرين "حلمى" و "عمرو".. وكيف ماتا؟".. تعلقت عيناها بسقف منزلها المتواضع للحظات وقالت وهى تغالب دموعها :" عندما علما بمقتل شقيقهما هانى.. عقدا العزم على الانتقام من قاتله "تامر"، وأسرعا إلى منزله، وهناك وجدا كل أهالى المنطقة قد تجمعوا امام المنزل للانتقام من القاتل.. لم ينتظر الشقيقان، واقتحما المنزل من شباك خلفى دون ان يشعر بهما أحد.. وامام المنزل اتفق الجميع على إحراقه ودون تردد أشعل الاهالى النيران فيه وكان عمرو، وحلمى بالداخل.. وفجأة انفجرت انبوبة بوتاجاز وفى لحظات تحول المنزل الى كتلة من اللهب.. فشل الشقيقان فى الخروج بسرعة.. أمسكت النيران بهما وخرجا مشتعلين.. أسرع الأهالى بإطفائهما، لكن ألسنة اللهب كانت قد امتدت إلى معظم جسديهما.. تم نقلهما فى حالة حرجة إلى مستشفى الحروق فى بلبيس.. بعد خمسة أيام جاءنى الخبر المشئوم.. مات حلمى وبعد لحظات لحق به عمرو.. شعرت بأن روحى تسلب منى.. ضاقت على الدنيا بما رحبت.. لم أجد سوى الخالق عز وجل.. رفعت يدى إلى السماء ودعوته ان يرحمنى.. وأن يأخذنى إلى جوار أبنائى الثلاثة وزوجى الذين فقدتهم فى أقل من شهر، فأنا لم أعد احتمل كل هذا العذاب.. ثم نظرت لابنى الصغير حسام، وشقيقه الأكبر احمد الذى يعانى من إعاقة فى قدميه.. تذكرت ابنتى "منى" و"يسرا"، وعدت أدعو الله ان يرحم أولادى وزوجى، ويحمى الأحياء منهم من بطش المجرمين وغدر الأيام وان يعيننى على مصيبتى.. أما القاتل "تامر" فحسبى الله ونعم الوكيل فيه، وهو الآن فى قبضة الشرطة، ولن يهدأ لى بال حتى يقتص القانون منه ". اكتفى المحقق بما سمعه من الحاجة "هدية" وحمل أوراقه وادواته وخرج من المنزل المنكوب وقد امتلأت نفسه هما وحزنا.. راح يتجول فى القرية إلى ان التقى باحد شهود عيان الجريمة يدعى "عبد الناصر عطية".. سأله عما حدث فاجاب الرجل: " الخلاف بين تامر واولاد عمه قديم بسبب النزاع على الميراث.. وتامر هذا معروف عنه سوء الخلق، ومحترف أعمال بلطجة.. يوم الحادث كنت قريبا من محل حلاقة يعمل فيه الضحية "هانى".. حضر تامر ونادى عليه خرج إليه بحسن نية.. وبلا تردد أخرج تامر سلاحا ناريا مزودا بكاتم للصوت، وأطلق رصاصة استقرت فى رأس هانى الذى سقط جثة هامدة فى الحال، بينما فر القاتل هاربا مستقلا موتوسيكل".. أما شاهد العيان الثانى "محمد السيد"، فقد اكد للمحقق أن تامر وجه حديثه لوالدة القتيل قبل هروبه قائلا: " قتلت ابنى عمى.. اطلبى له الاسعاف.. ثم اختفى عن الأنظار".