أعلم تماماً أن مصطلح النخبة السياسية بعيد عن الدقة، لأنه بغير توصيف لفئاتها الأساسية يصبح التعميم لا معنى له! وفى ضوء أهمية هذا التوصيف يمكن القول إن لدينا نخبا سياسية ليبرالية، ونخبا سياسية يسارية بكل ألوان الطيف السياسي لليسار من أول الاشتراكية حتى الشيوعية، ونخبا سياسية دينية تتعدد فيها التيارات. فلدينا أولاً نخب "الإخوان المسلمين"، ونخب التيارات السلفية، بالإضافة إلى جماعات الجهاد والجماعة الإسلامية. غير أن هذا التصنيف ينبغي أن تتصدره ما يمكن أن نطلق عليها النخب الثورية. ونعنى بها الائتلافات الثورية التي انفجرت كالفطر بعد ثورة 25 يناير وتعددت وتجاوزت مائتي ائتلاف. ويمكن القول إن الذي يميز نخبة سياسية ما عن غيرها هو نوع الإيديولوجية التي تنطلق منها. وهذه الإيديولوجية عادة ما تعبر عن رؤية محددة للعالم، ونعنى على وجه التحديد النظرة للكون والمجتمع والإنسان. والواقع أننا إذا أردنا تقييم ممارسات النخب السياسية المتعددة بعد ثورة 25 يناير، فيمكن لنا أن نضع أيدينا على سلبيات خطيرة أبرزتها كل نخبة من هذه النخب فى سلوكها السياسى بعد الثورة. ولا شك أن الخطيئة الكبرى التى ارتكبتها النخب الثورية أنها تشرذمت وتعددت وتجاوزت مئات الائتلافات، ولكل منها مسمى خاص وعضوية محدودة العدد من الناشطين السياسيين. وهذا التشرذم هو الذى همش وضعها السياسى وجعلها أقلية غير مؤثرة فى اتخاذ القرار، الذى سيطرت عليه النخب الدينية التقليدية ممثلة فى "الإخوان المسلمين" و"السلفيين". أما النخب الليبرالية فلم تستطع أن توحد جهودها فى إطار حزب سياسى عريض يلم شتات أنصار الدولة المدنية، وكذلك فإن النخب اليسارية عجزت عن التوحد. وهكذا حين حانت لحظة الحقيقة، ونعنى ساعة الانتخابات التشريعية لم تستطع كل هذه النخب السياسية الليبرالية واليسارية والثورية مجتمعة أن تنافس جماعة "الإخوان المسلمين" و"السلفيين" منافسة حقة، مما أدى إلى حصولها على مقاعد محدودة فى مجلسي الشعب والشورى، والذى سيطرت عليهما أكثرية إخوانية وسلفية. ثم جاءت المعركة الحاسمة ونعنى انتخابات رئاسة الجمهورية. ولم تستطع النخب الثورية والليبرالية واليسارية أن تجتمع على مرشح واحد تحتشد وراءه حتى تضمن فوزه بالمقعد الرفيع فى مواجهة جماعة "الإخوان المسلمين". وهكذا تفتت أصوات من يمثلون الثورة وأنصار الدولة المدنية، وإن كان "حمدين صباحى" استطاع بما يشبه المعجزة أن يصوت له أكثر من أربعة ملايين شخص مما جعله يعتبر رمزاً ساطعاً للثورة. وجاءت النتيجة المخيبة للآمال ونعنى انحصار انتخابات الإعادة بين الفريق "أحمد شفيق" الذى ترفضه النخب الثورية والليبرالية باعتباره رمزاً للفلول وأن انتصاره معناه بكل بساطة إعادة إنتاج نظام "مبارك" السابق. ومن ناحية أخرى نجاح الدكتور "محمد مرسى" والذى يعتبر فى نظر عديد من التيارات الليبرالية وأنصار الدولة المدنية رمزاً للدولة الدينية التى سيعمل – لو فاز- هو وجماعة "الإخوان المسلمين" على تأسيسها، بعد أن سيطرت الجماعة على مجلسي الشعب والشورى والسلطة التنفيذية حين يشكلون الوزارة. وقد أدهشني للغاية السذاجة السياسية المفرطة للنخب الثورية والليبرالية اليسارية فيما يتعلق برد فعلها إزاء هذه النتيجة غير المتوقعة. فقد اندفعت عديد من هذه النخب وقادتها لتأييد مرشح "الإخوان المسلمين" على أساس أن "أحمد شفيق" من الفلول وينبغى رفضه تماماً. ومعنى ذلك –للأسف الشديد- أن هذه النخب ستكون عاملاً أساسياً فى تأسيس الدولة الدينية التى تدعى رفضها المطلق لها! ومن ناحية أخرى صدرت مطالبات من قبل بعض المتحدثين باسم النخب الليبرالية للدكتور "محمد مرسى" طالبين منه التنازل "لحمدين صباحى".! أى سذاجة سياسية؟ وأى جهل بالقانون؟ ما الذى يجعل "د.محمد مرسى" وهو فائز فى الانتخابات يتنازل "لحمدين صباحى"؟ وهل لذلك سابقة فى أى انتخابات ديمقراطية جرت على سطح الأرض؟ ومن ناحية أخرى ألا يعلم هؤلاء وبعضهم أساتذة فى العلوم السياسية أن هذا التنازل المطلوب غير مقبول قانوناً ولا يجوز؟ ولعل الحيرة البالغة وفقدان الاتجاه لدى النخب الثورية والليبرالية عبر عنها أبلغ تعبير أحد رؤساء الأحزاب الليبرالية حين صرح فى برنامج تليفزيوني قائلاً: "إحنا محتاسين ومش عارفين نعمل إيه"؟ هذه هى النخب السياسية الليبرالية التى تدعى أنها ضد نظرية الدولة الدينية!