فيما كنت أسبح وسط أمواج الأرواح الغائبة عن الحياة ، إذ بى أفاجأ ب3 شخصيات ،يبدو أن أمسية طيبة قد جمعتهم ، وهم وزراء الداخلية الراحلون : نبوي إسماعيل ، حسن أبو باشا وزكى بدر. ألقيتُ عليهم السلام ،فلم يردوا،لكنى لم أغضب فهذا شأن من يعملون غالبا- بالشرطة ،ينظرون إلى الناس من عل، ولا يردون عليهم تحية،ولا يلقون عليهم سلاما. قلت لنفسي :لا بأس ،هذا أمر اعتدناه من صغار الضباط ،فما بالك بالسادة معالى الوزراء؟! لم تهدأ نفسي وألحّت علىّ بالانصراف فورا،لكنى غالبتُها بأن أقنعتُها بأنني قد أكون بصدد إجراء حوار نادر مع 3 وزراء داخلية دفعة واحدة فى هذه الظروف التاريخية التى تمر بها مصر،وقد يشفق علىّ رئيس التحرير فيأمر بصرف مكافأة لى ، تعيننى على حوائج الحياة ،ثم يمتنع عن صرفها مسئول الحسابات توفيرا للنفقات وتقربا لرؤسائه . نفسى الأمارة بالسوء دائما سخرت منى بقولها: وهل تتخيل أن من لم يردوا عليك التحية يوافقون على إجراء حوار معك خاصة أنهم انتقلوا إلى الرفيق الأعلى منذ سنوات ليست قليلة؟ كدتُ لنفسى وتحديتُها وقلت لها : دعينى أحاول، فضاعفت سخريتها منى ، ولسان حالها يقول : «يبدو أنك لن تسكت قبل أن يصدر الثلاثة قرار اعتقال لك وقد يشمل القرار مسئولي الصحيفة التى تعمل بها وعددا من أقاربك» .. لم أبال بتلك الوساوس، واقتربتُ حثيثا من معالى الوزراء الذين وجدتُهم فى رفاهية من الموت ، حتى إن نفسى استعادت وساوسها إلىّ عندما أوهمتنى بأن ما ينعمون فيه حتى الآن ،وهم فى مثواهم الأخير ، من ميزانية وزارة الداخلية التى تستعصى على الحصر . والحقّ أقول : إن ما رأيتُه من رفاهية يرفل فيها السادة الوزراء الراحلون لم يكن أكثر من رفاهية مادية وليست معنوية ،تمثلت فى سيارات فارهة وأجهزة اتصالات متقدمة ،وشاشة عرض لم أر شبيها لها فى المقاهى التى تعرض المباريات المشفرة . الآن ..استجمعتُ قواى ، واستعاد لسانى «المنفلت» لياقته ، واقتربت من أصحاب المقام الرفيع ، فإذ بهم يضبطون مؤشر التليفزيون على شاشة إحدى القنوات الإخبارية، لمتابعة آخر تطورات انتخابات الرئاسة ، وإذ بهم يطلقون ضحكة «مجلجلة» شقت صمت القبور، عندما ظهر خبر عاجل على الشاشة ،يقول : إن المجلس يقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين وإن الانتخابات نزيهة ولم يخالطها تزوير. فى هذه اللحظة فوجئت ب«زكى بدر» يلتفت إلىّ بعينين مندهشتين سائلا: ماذا تريد؟ أجبتُ قائلا: كنت أريد استطلاع رأى سيادتكم فى المشهد الانتخابي ؟ أطلق «بدر» ضحكة جديدة وإن بدت مستفزة متسائلا : «كلام فارغ»! قاطعتُه :لماذا؟ فأجاب بنبرة يخالطها كثير من الغلظة: « البلد رايحة فى داهية والمجلس العسكرى يلتزم الصمت»؟ أردفتُ : وماذا كان ينبغى عليه أن يفعل ؟ فالتقط «حسن أبو باشا» طرف الحديث،مجيبا بقول قديم وبنبرة خشنة : ما هكذا تورد الإبل ! قلتُ ?وقد لمستُ فى شخصه هدوءا مقارنة ب«بدر»-:ماذا تقصد ؟ فأجابنى : المجلس العسكرى يبدى خضوعا واستسلاما لإرادة الشعب ، وهذه خطيئة لن يغفرها التاريخ ،فالشعب إن دللته وحققت له ما يريد،لن يهدأ ولن تتوقف مطالبه.. يقاطعه «نبوى إسماعيل» مشددا على أن الشعب كالرضيع أو الطفل الصغير، لا يتوقف عن البكاء ، ولا تنتهى طلباته .. قلتُ : معالى الوزير ..هل يغضبك أن الانتخابات لا يتم تزويرها؟ أجاب: بالتأكيد ..أى انتخابات لا يجب أن تنتهى إلى ما يريده الشعب ،ولكن إلى ما يرغب فيه النظام الحاكم. قلتُ :ولكن الثورة قامت ومصر تتحول إلى الديمقراطية...وقبل أن أكمل كلامى قاطعنى «بدر» بغلظة -علىّ أن أتحملها ?قائلا : «ثورة إيه وقرف إيه؟..دى مجرد انتفاضة شعبية كان يمكن السيطرة عليها ، ولكن المجلس العسكرى تواطأ مع العيال بتوع الثورة وآدى النتيجة، محدش عاجبه حاجة ، وكله عامل فيها بطل». «أفهم من كده إن حضراتكم مش مبسوطين من اللى بيحصل» ،هكذا سألتُهم ، فأجابونى: «وفيه عاقل يعجبه ده؟ ، البلد هتخرب ، انتخابات تجرى وفق إرادة الشعب اللى فيه ناس لا يجب أن يكون لها رأى، وتيار إسلامي ينخر كالسوس فى جدار الوطن ،وجنرالات عسكريين بيقولوا :نعم وحاضر ، ده اسمه كلام»! وجدتُ نفسى فى مأزق حقيقى ، ولكن قررتُ أن أجاريهم ولو قليلا ، حتى أستكمل الحوار إلى نهايته، فقلتُ فى سذاجة اكتشفتُها لاحقا : ولكن العالم كله أشاد بأجواء الانتخابات..كالعادة نهرنى «بدر» قائلا: «وده أكبر دليل يا ناصح إن البلد بتخرب»..قلت : كيف؟ أجابنى «أبو باشا» بعدما تخفف من نظارته السميكة : الغرب تحديدا لا يتمنى الخير لمصر ، وهو يدرك منذ سقوط نظام مبارك ، أن القبضة الحديدية تفككت وأصبحت السيطرة على مصر سهلة . قلتُ مندهشا : من قال إن النظام السابق كان يمتلك قبضة حديدية ؟ رد «نبوى إسماعيل»: «نعم ..النظام كان ناجحا فى السيطرة على الشعب وتكميم أفواهه». قلت :إذن تقصدون سيطرة على الداخل، أما الخارج فلا؟! قاطعنى «بدر»: بل كانت سياسة يا جهلة»! فيستوقفه «أبو باشا «قائلا : « أعصابك يا معالى الوزير ،إنت عندك السكر والضغط »،فيعقب «بدر» :«أعمل إيه يا معالى الوزير ، مش عاوز يفهم»! تخففتُ قليلا من فزعى من وزراء الاعتقالات والتزوير السابقين ، فقلتُ فى لحظة شجاعة نادرة: « ليه حضراتكم مصممين على أن اللى بيحصل ده مش كويس؟ ، هو لازم الانتخابات يتم تزويرها؟! ، ولازم إرادة الشعب تبقى معدومة عشان النظام يبقى قوى»؟! أجابنى «نبوى» فى هدوء : «يا ابنى افهم ،بالفعل الانتخابات يجب تزويرها لأن الشعب خد على كده ، ومن مصلحة الشعب تزوير الانتخابات لأن الشعب مبيعرفش»! قلتُ ?وقد تذكرتُ فيلم «النوم فى العسل» : «مبيعرفش إيه بالضبط يا معالى الوزير؟» ردُ علىّ «نبوى» : «مبيعرفش مصلحته ..يا قليل الأدب!» «شكرا يا معالى الوزير» ،هكذا رددتُ ، ولكنى جددتُ السؤال للوزراء الثلاثة: لو كنتم موجودين أيام ثورة 25 يناير كنتم عملتوا إيه؟ بنبرة زاعقة أجاب «بدر» : «مكنش فيه ثورة قامت» ، وأومأ الآخران برأسيهما فى موافقة ضمنية! قلت : يتبقى لى سؤالان آخران فهل تسمحون ؟ وفيما بدا «بدر» مشغولا بهاتفه المحمول المتصل بالأقمار الصناعية ،أجابنى «أبو باشا»: هات ما عندك. قلت: هل المجلس العسكري أخطأ ؟ أجابني «نبوى إسماعيل» : نعم أخطأ مرات عديدة . قلت : مثل ماذا؟ ردّ «أبو باشا» : عندما تضامن مع العيال بتوع الثورة ، وعندما سمح للتيار الإسلامي بالتوغل فى المشهد السياسي .. وقبل أن يكمل, تدخل «بدر» بصوته الأجش: وعندما لم يقم بتزوير الانتخابات الأخيرة! سألتهم : ولمن كنتم تريدون تزوير الانتخابات؟ أجاب «نبوى إسماعيل »: عمرو موسى طبعا ، فقاطعه «أبو باشا» : لأ طبعا شفيق ، فإذا ب»بدر» يخرج من ملابسه سلاحا ويطلق أعيرة نارية فى الهواء ، مرددا :« لا موسى ولا شفيق .. أنا كنت الأولى بحكم مصر ، عشان العيال بتوع الجماعات الدينية يرجعوا المعتقلات لأن هو ده المكان المناسب ليهم ولاد ...». وفى هذه اللحظة لملمتُ أشيائي وانصرفتُ في هدوء وحمدت الله أنني أنجزتُ مهمتي بلا قرار اعتقال ..