لم يقدر لها أن تعيش طويلا، ولكن تاريخها يواكب الأجيال ويساير الزمن ويدور في فلك الحياة.. ولم يقدر لها أن تربي طفلها اليتيم محمد بن عبدالله لأن الله الذي اختاره نبيا ورسولا شاء أن يتولي تربيته ويصطنعه على عينه ويعلمه من علمه. لم تكن آمنة بنت وهب تعلم أن ابنها هذا سيكون آخر الأنبياء وخاتم الرسل، إلا أنها كانت تسترض في مخيلتها صورا مما كان يحدث لأبيه عبدالله قبل زواجه إياها، فقد كانت بعض فتيات مكة يتعرضن له في الطريق عسي أن يميل قلبه إلى إحداهن فيتزوجها، ولكنه أعرض عنهن جميعا ولم يذكر اسم واحدة منهن، ولما سألت إحدى الفتيات: لماذا تريدين عبدالله بن عبدالمطلب بالذات؟ فقالت آمنة: إنى لا أريده لوسامته وقسامته وعفته وتميزه وانما اريده لأننى ألمح في جبهته نورا يأخذنى بريقه ولهذا أريد أن أنقل هذا النور لذريتى. وتجلس آمنة لتتذكر ما حدث لها بعد أن حملت بابنها محمد صلي الله عليه وسلم وكيف كان حملها خفيفا، فلم تشعر بما يشعر به النساء الحوامل من تعب وارهاق، بل إن أطياف القديسين كانت تزورها في المنام وكانت البشريات تتوالي عليها..أبشري يا أمنة فقد حملت بسيد الأمة، إلى أن فرحتها لم تكتمل فقد فجعت في زوجها الشاب وهى مازالت في ثياب العرس..فقد مات عبدالله أثناء قيامه بإحدى رحلاته التجارية وإمرأته أمنة حامل في الشهر الأشهر الأولى. ومرت أشهر الحمل خفافا حتى أحست بعلامات الوضع، فاجتمع حولها نسوة من بني هاشم فأخذتهمن الدهشة إذ لم يجدنها تعانى مثل معاناة الحوامل أثناء الوضع، بل إزدادت دهشتهن حين رأين حجرة السيدة أمنة تهب عليها رائحة طيبة ويشع فيها النور ويصدر حفيف أجنحة كأنها أجنحة الملائكة. وتسأل النساء السيدة أمنة: ماذا بك؟ فتقول: لا شيئ.. أري نورا يملأ ما بين السماء والأرض، وأسمع من يقول طوفوا به مابين المشرق والمغرب..وأري جناح طائر أبيض يمسح على فؤادي فذهب الرعب عني وتقول أمنة: رأيت نسوة كالنخل طولًا تحدّثني، وسمعت كلامًا لا يشبه كلام الآدميين حتّى رأيت كالديباج الأبيض قد ملأ بين السماء والأرض وقائل يقول: خذوه من أعزّ الناس،ورأيت رجالًا وقوفًا في الهواء بأيديهم أباريق، ورأيت مشارق الأرض ومغاربها ورأيت عَلَمًا من سندس على قضيب من ياقوتة قد ضرب بين السماء والأرض في ظهر الكعبة فخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)رافعًا إصبعه إلى السماء. كانت ليلة مولد الرسول صلي الله عليه وسلم من بدئها مقمرة واعدة..ينيرها قمر أوشك أن يكتمل بدرا..تؤنسها أطياف ورؤي ظلت تتجلى لأامنة بنت وهب القرشية الزهرية طوال شهور حملها فتعينها على احتمال تجربة المخاض، فمنذ أن حملت بهذا الجنين وهي لا تكف عن التفكير فيما كان من أمرها وأمره بعد أن مات أبوه عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، في طريق عودته اليها من رحلة صيف إلى الشام.