"من خلال الاعتقاد بشرعية قتل المرتد، حرض المفسدون من حرضوا، وقتلوا ظلمًا من قتلوا، وسفكوا اغتيالًا دم من سفكوا، فعلوا كل هذا، من غير تردد في العقل، ولا وجل في القلب، ولا وخز في الضمير، لماذا؟ لأنهم يؤمنون أنهم ينفذون حكم الله فيمن يعتبرونه هم كافرًا مرتدًا حلال الدم".. من هذه العبارة ألقى الباحث السورى محمد منير إدلبى بنفسه في مرمى النيران، لأنه أعطى لنفسه الحق في أن يفكر في حجة قتل المرتد، ولماذا يقتل الإسلام كل من يخرج عليه كافرا به. وكان عنوان كتاب إدلبى "قتل المرتد.. الجريمة التي حرمها الإسلام" الذي صدر عام 1993، عن دار الأهالي للنشر، في دمشق، كفيلًا بأن يهدر كل شيوخ الجماعات الإسلامية دمه، لذلك بعد الجدل الذي دار حوله، لم يطبع الكتاب مرة ثانية، إلا عام 1999، لكن ظل بنفس العنوان، ونفس قناعة الكاتب أن قتل المرتد جريمة حرمها الله. المؤلف بدأ بعرض براهين من كتاب الله وسنة رسوله تؤكد أن الله لم يحرم قتل المرتد عن دينه، وإنما أعطى الحرية كاملة لمن يرد أن يؤمن، ومن شاء أن يكفر. فالقرآن يحتوى على أدلة قرآنية تؤكد أن عقاب المرتد لعنة الله والملائكة، ومنها الآية 256 من سورة البقرة "لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي"، والآية 29 من سورة الكهف "وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر"، والآية 99 من سورة يونس "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين". والآيات من 86 إلى 89 من سورة آل عمران "كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدى القوم الظالمين. أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، فإن الله غفور رحيم. إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون". ويقول المؤلف في هذا الصدد "عقاب المرتد ليس القتل، بل لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ثم الخلود في نار جهنم، وهناك أمر مهم تبينه هذه الآيات، وهو أن هؤلاء المرتدين لديهم فرصة للتوبة حتى آخر العمر، وليس هذا تشجيعًا لهم للبقاء على الارتداد، بل على العكس، هو تشجيع على عدم اليأس، وعلى العودة إلى الإسلام طمعا في مغفرة الله". ويستطرد إدلبى قائلًا: إذا كان القائلون بقتل المرتد سيسارعون بقطع رقبة المرتد، فكيف سيكون لديه الفرصة للتفكر ومراجعة النفس ومن ثم التوبة إلى الله تعالى؟! لم يكتف المؤلف بتحليل الآيات السابقة فقط، وبيان أسباب ذهابه إلى أن عقاب المرتد ليس القتل أبدًا، وإنما جعل الله حسابه في الآخرة، يوم يحاسب الناس أجمعين، وبدأ منير يذكر هذه الآيات في رسالة واضحة إلى من يحلون دماء كل من يرتد عن دين الإسلام، مضيفا إليها الآيتين 21 و22 من سورة الغاشية "فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر"، والآية 45 من سورة ق "وما أنت عليهم بجبار، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد"، والآيتين 104 و107 من سورة الأنعام "قد جاءكم بصائر من ربكم، فمن أبصر فلنفسه، ومن عمى فعليها، وما أنا عليكم بحفيظ" و"ولو شاء ربك ما أشركوا، وما جعلناك عليهم حفيظًا، وما أنت عليهم بوكيل"، وكذلك الآية رقم 54 من سورة الإسراء "ربكم أعلم بكم أن يشأ يرحمكم، أو أن يشأ يعذبكم، وما أرسلناك عليهم وكيلًا". شروط قتل المرتد كما لجأ "إدلبى" إلى السنة النبوية، لينقل منها أدلة تحريم قتل المرتد إلا في شروط معينة، إما أن يكون قاتلًا، أو مفسدًا في الأرض، أو محاربًا. واستعان بالحديث الشريف الوارد في صحيح البخارى "عن جابر رضى الله عنه أن أعرابيا بايع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الإسلام فأصاب الأعرابى وعكة بالمدينة، فجاء الأعرابى إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله أقلنى بيعتى فأبى رسول الله، ثم جاءه فقال أقلنى بيعتي، فأبى ثم جاءه فقال أقلنى بيعتى فأبى، فخرج الأعرابى فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إنما المدينة كالكير تنفى خبثها، وتنصع طيبها". ويقول المؤلف "هذا الحديث يدلل بوضوح على أن القتل لم يكن حدا ينفذ في المرتد ويقام عليه، حيث ترك الرسول (صلى الله عليه وسلم) الأعرابى الذي أعلن ردته ينصرف دون أن يأمر الصحابة بقتله". وفى دليل آخر يذكر الباحث السورى واقعة "أن عبد الله بن أبى سرح كان يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فأزله الشيطان، أي ارتدَّ، فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة أن يقتل، فاستجار له عثمان بن عفان رضى الله عنه، فأجاره النبى (صلى الله عليه وسلم)"، متسائلا: لماذا لم ينهر الرسول (صلى الله عليه وسلم) عثمان رضى الله عنه لشفاعته في حد من حدود الله كما فعل مع حِبّه زيد حين تشفع للمرأة المخزومية التي سرقت؟ ويجيب "الحقيقة هي أن الرسول أمر بقتل عبد الله بن أبى سرح بسبب انضمامه بعد ردته إلى صفوف المقاتلين من المشركين فهو بذلك أصبح محاربا للمسلمين ومفسدا في الأرض". ويورد المؤلف حالتين فقط أمر فيهما الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقتل مُرتدَين هما ابن خطل ومقيس بن صبابة، ويؤكد أن حكم القتل هذا لم يكن بسبب الردة، بل بسبب جرائم قتل ارتكبوها في حق المسلمين. حجج قتل المرتد من القرآن والسنة ولم ينس "منير" أن يذكر الأدلة القرآنية والنبوية التي يعتمد عليها من يؤمن بقتل المرتد عن الإسلام، وكان دليلهم من سورة التوبة " وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴿12﴾ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ﴿13﴾". وهنا يرد المؤلف قائلًا " هذه الآيات تخص المشركين الذين نكثوا عهودهم واستهزءوا بالدين، وليس فيها أي ذكر لأناس ارتدوا عن دينهم، حيث إن هذه الآيات خاصة بفترة ما بعد الهجرة من مكة إلى المدينة، وذلك عندما كان قرشيو مكة قد عقدوا العزم على التشديد في ممارساتهم العدوانية ضد المسلمين بقصد محو الإسلام من على وجه الأرض بالقوة، فأمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بقتال هؤلاء القوم أصحاب العهود الزائفة". ومن السنة النبوية كان دليل القائلين بجواز قتل المرتد، هو حديث صحيح البخارى "من بدل دينه فاقتلوه". وفى هذا الحديث يرى منير أن كلمة القتل في اللغة العربية لا تعنى دائمًا الإماتة، بل قد تأتى بمعنى: قتل الشهوة، أو اللعنة، أو دفع الشر، أو المقاطعة الاجتماعية. ومن كل هذا يرى المؤلف أن قتل المرتد لا يكون لمجرد ارتداده عن الدين، وإنما لكونه حمل السلاح ليقاتل المسلمين، أما إذا لم يرفع السيف في وجوه أحد منهم، فهو حر طليق حسابه عند من خلقه. الخلفاء والأئمة.. والاتهام بالردة اتخذ منير إدلبي، من البداية موقفًا واحدًا، يقول إن إهدار دم المرتد ظهر لتحقيق مآرب سياسية وليست دينية، واستعرض مواقف من بداية فجر الإسلام إلى العصر الحديث تؤكد أن بعض الشيوخ والسلاطين استخدموا هذا الحق، أي "قتل المرتد"، ليحكموا على معارضيهم بالردة والخروج من الدين، وبالتالى يسهل قتلهم دون أن يعترض أحد من المسلمين. وسرد في كتابه " في القرن الأول الهجري، كانت هناك فئة كهنوتية في طور النشوء، وكان هناك أتباع خضعوا لفكرها وممارستها، اتهمت هذه الفئة الخليفة الثالث عثمان بن عفان، والرابع على بن أبى طالب، والإمام الحسين بن على، رضى الله عنهم أجمعين، بالكفر والردة، ثم عملت على اغتيالهم". وعندما أوشك هؤلاء على اغتيال الخليفة عثمان بن عفان قال لقتلته: "لو قتلتمونى فتذكروا أن المسلمين لن يتحدوا بعدها في صلاتهم ولا في جهادهم ضد أعدائهم حتى آخر الأيام". وفى القرن الثانى الهجري، تعرض الإمام أبو حنيفة النعمان، مؤسس مدرسة الفقه التي يقوم على أساسها المذهب الحنفي، لحالة مشابهة حين رمى بالكفر والارتداد، فاعتقلوه وعذبوه ومات مسمومًا. وهنا يقول الكاتب "لأن الله لا يصلح عمل المفسدين فقد صار المذهب الحنفى المذهب الرسمى للدولة العباسية الذين حاربوه، بل ولدول كثيرة على مدى التاريخ الإسلامي، وحتى في زمننا هذا ما من زواج يتم إلا ويباركه مذهب أبى حنيفة النعمان". الجريمة التي حرمها الإسلام وفى نهاية بحثه توصل "إدلبى" إلى أن جواز قتل المرتد أمر مستحدث على الإسلام، وأوضح أن المؤيدين لفكرة جواز قتل المرتد، يتعللون بحجة إجماع علماء الأمة من العصور الإسلامية الوسطى، التي تفشى فيها الفساد في السر والعلن وكثر فيها الجهل والضلال، بناء على استنباطات واهية، ليس لها دليل في القرآن والسيرة النبوية. ولهذا كان لزامًا أن يخرج عنوان الكتاب بهذا الاسم، ويحاول الكثيرون منعه من الصدور، إلا أنه كان قد فات الأوان، وطبع الكتاب أكثر من طبعة، وحتى الآن يسأل عليه مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعى، الذين ضل بهم السعى وفكروا كثيرًا في نفس السؤال "كيف كفل لنا الإسلام حرية اعتناقه، ولا يكفل لنا حرية الخروج منه"؟.