وكأنه عذاب أبدى لا نهاية له، أو قل إنه عمل شاق لا تنتهى عذاباته إلا بالموت، وأى موت هم في انتظاره، فهذه الفئة تموت كل يوم مرات ومرات بين المعاناة وضيق الحال، وفوق هذا وذاك إحساس الدونية القاتل الذي يحبس أنفاسهم بين روائح تكرهها أنفك وعمل لا يطيقه ساعدك..! هذا هو حال عمال الصرف الصحى بالمنيا، وفى كل مكان حيث كتب على جباههم التجاهل وكذا نقش المسئولون أحرف الإهمال على ظهورهم، فانتهكت حقوقهم منذ سنوات بعيدة، إذ حرمتهم الإدارات السابقة والحالية من التوظيف، إضافة إلى أنه لم يصل إلى مسامعهم شيء عن ال «علاوات، الغذاء، بدلات خطورة العمل، التأمين الصحي، وسائل السلامة الصحية»، حيث كانت كل تلك المستحقات حبرًا على ورق، فعمال الصرف الصحى فئة مهمشة من المجتمع يعانون، يصرخون، يموتون، ولا يشعر بهم أحد لا المسئولون ولا شركاتهم. أغلب هؤلاء العمال غاية في البساطة، يخاطرون بحياتهم من أجل لقمة العيش ويتغاضون عن المخاطر التي يتعرضون لها في هذه المهنة، لأنه ليس لديهم عمل آخر أو سبيل بديل للرزق، فمات من مات منهم متأثرا بمرضه، لأنه لم يجد ثمن العلاج، ومنهم من اختنق بالغازات السامة أثناء عمله في المجارى وغرف التفتيش. الآلام والمعاناة الإنسانية لطبقة عاملة تنظر إليها الحكومة كوسائل أو معدات جامدة صالحة للاستخدام عند الحاجة، وقت ما يكون التسريح أو استبدالها حلا متى مرض أحدهم دون أدنى رحمة أو إنسانية. خطر داهم خالد عبد السميع طنطاوى 48 عامًا، لديه 4 من الأبناء، أكبرهم في الصف الأول الثانوى وأصغرهم في الصف الثانى الابتدائى، متزوج من ربة منزل لا تعمل، يقول: أعمل بهذه المهنة منذ أكثر من 20 عامًا، لأننى لم أتعلم سواها، وتعرضت لعدة مخاطر ومشكلات آخرها فقدت عينى التي ضعفت للغاية، بسبب رائحة الغازات السامة، كما أننى تعرضت في إحدى المرات أثناء عملى في المجارى وغرف التفتيش للغازات السامة وأغمى على وتم إسعافى لولا تدخل عناية الله ما كنت لأنجو، حيث نعمل دون أدنى مستوى من الحيطة وأدوات السلامة، وأبسطها الكمامات وأسطوانات الأكسجين وغيرها من المعدات الضرورية لعملنا، كما أننا نتعالج على نفقتنا الخاصة، لهذا نطالب السلطة بتوظيفنا واعتماد ميزانية للصرف الصحي، حتى نضمن صرف كل مستحقاتنا بانتظام. خطوات الموت مع صباح كل يوم عمل أخرج من منزلى ويرافقنى 3 عمال آخرون في تمام السابعة لأبدأ يوما شاقا بفتح فوهة الخزان أو البالوعة وسط الشوارع والحوارى لتنظيفها من الشوائب العالقة، ويأخذ اثنان منا في النزول داخل البالوعة التي يصل عمق المياه بها إلى 11 مترا؛ لتكون مهمتنا التسلل داخل الماسورة الرئيسية بباطن الأرض وتنظيفها باستخراج الشوائب ووضعها في جردل بلاستيك، فيما ينتظر الاثنان الآخران خارج البالوعة ليسحب أحدهما الجردل المملوء بالشوائب ويلتقطه الأخير ليلقى به على جانب الطريق. طنطاوى سرد طبيعة عمله قائلا: داخل البالوعات سلم خشبى معرض للكسر، وحبل سميك معرض للقطع، حيث نبدأ بتنظيف ماسورة الصرف، وكثيرًا يحدث أن تخرج الغازات السامة أو تتدفق المياه فجأة؛ ليكون الموت مصيرى ومصير المرافقين. 360 جنيهًا شهريًا من جانبه: أضاف طنطاوى:»30 جنيهًا أتقاضاها من المقاول، و360 جنيها راتبى من الحكومة.. ما يوازى 12 جنيها يوميًا «ده حرام ولا حلال»، فزوجتى تعانى من ورم سرطانى في الثدى تكلفة علاجه شهريا أكثر من 600 جنيه، ولدى من الأبناء أربعة، ولولا أصحاب القلوب الرحيمة، لتوفيت زوجتى وشرد أبنائى، حقا الحياة صعبة دون مال أو صحة، فتوفير المال بالحلال أصبح أمرًا في غاية الصعوبة. وتطرق «طنطاوى» في سرد روايات لموت أصدقائه قائلا: تنتابنى حالة نفسية سيئة عندما أتلقى خبر موت عامل من عمال الصرف الصحى، ففى الآونة الأخيرة لقي عاملان مصرعهما خنقًا داخل بيارة صرف صحى بسمالوط، وكذا أصيب 3 آخرون بينهم أب ونجله أثناء قيامهم بعمل صيانة لبيارات الصرف الصحي، وبمجرد استنشاقهم الغاز لقي اثنان مصرعهما وأصيب 3 عمال آخرون، كما انهار خزان الصرف الصحى على 3 عاملين أثناء تطهيره، من بينهم شقيقان بقرية حمزاوى بمركز ملوي، وأنا أيضًا سألحق بهم قريبًا لأنى أدرك أن وفاتى ستكون بالاختناق.