لا شك أن لفظ (الإصلاح) ومشتقاته من أكثر المصطلحات التي تكرر قرعها للآذان أثناء الثورة المصرية المباركة وبعدها، ولا شك كذلك أن الأزهر الشريف من أبرز المؤسسات التي حظيت بنصيب كبير من استعمال هذا المصطلح، فقد كانت مطالبة أبنائه وأنصاره بإصلاحه في طليعة سلسلة المطالبات الإصلاحية المؤسسية. إلا أننا في خلال المبادرات الأولى للمناداة بإصلاح الأزهر وجدنا أن الصورة غير متفقة بين فئات عدة، بل وجدنا محاولات لفرض هيمنة فكرية معينة على الأزهر الشريف، كلها تحت مسمى (الإصلاح) لا غير. إن الإصلاح في حد ذاته أمرٌ نسبي، وهو ما أدى إلى تصارع الرؤى الإصلاحية المختلفة التي تواردت على تلك المؤسسة العريقة، ولو تُركت هذه الرؤى الإصلاحية المتفاوتة دون تحديدها بأُطُر وضوابط لأدّت إلى إفساد الأزهر لا العكس. ولذا فإن التحديد الدقيق لمفهوم (إصلاح الأزهر) لا بُدَّ أن يرتبط كلِّيًّا وجزئيًّا بمفهوم الشخصية الأزهرية ومعالمها ومكوناتها. إنّ المناداة بإصلاح الأزهر بعيدًا عن ماضية العريق وما كان عليه في سالف الزمن من منهجية علمية واجتماعية وسياسية أمر يفتح لأصحاب الأهواء بابًا يمكّنهم بدعوى الإصلاح مِن إزهاق الرُّوح الأزهرية الأصيلة التي دامت أكثر من ألف عام. والمتأمل لواقع المنتسبين إلى المؤسسة الأزهرية اليوم يكاد يجزم أنه لا يمكننا الاعتماد على مجرَّد تلك (النسبة) لتحديد معالم الشخصية الأزهرية، إذ لم يعد مستحيلًا بفعل عوامل عدة أن تجد أزهريًّا ليس على منهج الأزهر وهَدْيه؛ ف(حسن شحاتة) مثلًا أزهري من الجهة الرسمية، ومع ذلك فهو شيعيٌّ معروف، وكونه أزهريًا من الناحية الرسمية لا يجعل من الأزهر مؤسسة شيعية أو قابلةً للتشيع بوجه. والدكتور (أحمد صبحي منصور) كان أستاذًا بكلية أصول الدين، ثم رأيناه في طَورٍ من أطوار حياته ينكر السنة كمصدر للتشريع، وهو ما لا يُقِرُّه الأزهر أو يقبله. إننا إذًا أمام خيار واحد لتحديد معالم الشخصية الأزهرية التي يمكن أن تمثل الأزهر وتعمل على إصلاحه، وهو أن تكون معالم هذه الشخصية نابعةً من ذات المؤسسة، من المنهج الأزهري الذي ظلَّ قرونًا متطاولة منذ تم تقرير المذهب السنيِّ به على يد الإمام المجاهد صلاح الدين الأيوبي، وليس ما قبل ذلك حيث كان المذهب الشيعي، وليس ما يحاول البعض الآن ترسيخه في نفوس الناس من كون الأزهر ليس على العقيدة السلفية! فيقضون بذلك على أزهر سُنيّ دام دهرًا من عمر الإسلام. ومن خلال استقراء منهج الأزهر الشريف في التدريس والبحث والفتوى عبر القرون الممتدة، يتبين لنا أنه يقوم على ثلاثة أركان رئيسة، تمثل بدورها المعالم الواضحة للشخصية الأزهرية: الركن الأول: العقيدة السُّنية (عقيدة السلف الصالح) وهي العقيدة الصافية التي لم يداخلها تشويش المعتزلة أو القدَرية أو الجبرية أو المجسِّمة أو غيرهم من الفِرَق المخطئة، وهي العقيدة السُّنية الصحيحة التي نظَّر لها في التصنيف والتقعيد أئمة أهل السنة والجماعة: كأبي الحسن الأشعري، وأبي منصور الماتريدي، وأبي جعفر الطحاوي رضي الله عنهم. وهي عقيدة جماهير المسلمين، بخلاف أهل البدع أو من تأثر بهم من العوام. وقد بدأ تدريس العقيدة السُّنية في الأزهر منذ أكثر من تسعة قرون على يد الإمام المجاهد صلاح الدين الأيوبي، الذي أمر بعض أهل العلم بتدوين العقيدة الإسلامية الخالصة ونشرها وتعليمها، فنظمها في قصيدة عُرفت باسمه رضي الله عنه (العقيدة الصلاحية)، وكانت تقرأ على منارات المساجد في عهده ومن بعده. وما في القصيدة الصلاحية هذه هو بعينه ما تحويه مناهج التوحيد وعقيدة أهل السنة التي تدرس بالأزهر من قديم وإلى يوم الناس هذا. الركن الثاني: فقه أهل السنة (المذاهب الأربعة) ويقصد بذلك اتباع مناهج البحث التي أصَّلها الأئمة الأربعة في الفقه والفتوى والتدريس، تلك المناهج التي بقيت واستمرت وانتشرت منذ القرون الخيرية الأولى وحتى يومنا هذا، حتى صارت هذه المناهج الأربعة (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي) عيونًا ترى بها الأمة أحكام الشريعة الغراء، وتُصدر من خلالها الرأي فيما يُقبَل أو يُرَدُّ. وقد تم تأسيس هذه المذاهب الفقهية الأربعة والاعتماد عليها بالأزهر الشريف من المنطلق الأصلي للأزهر وهو أنه سُنيّ يتبع منهج أهل السنة في الأصول والفروع. وعلى هذا يكون الأزهر قد أسَّس لمنهج متين في تلقى الفقه، وفي إفتاء المسلمين، ولذلك لم تعرف الأحقاب الماضية تعرُّضَ المسلمين لهذا النوع من فوضى الفتوى التي يعيشها المسلمون الآن؛ بسبب وجود مرجعيات لا تقوم على أسس ثابتة من مدارس السلف الفقهية، وإنما تعتمد على التوجهات الفكرية الشخصية أو الحزبية. الركن الثالث: التربية الرُّوحية السلوكية (التصوُّف) ونعني به تصوف أهل السنة القائم على تزكية النفس وتنقية الروح والترقي بها في مراتب القرب من خالقها، لا التصوف الفلسفي الذي لا طائلَ للمسلم من ورائه إلا التوسع في المصطلحات والمعاني، بل والتعرُّض للزلل والمهلكة. ولا نعني به أيضًا تصوُّف الجهل والبدعة والخرافة. إنه تصوّف السلف وأئمة الدِّين، الذي هو ركن الإحسان من أركان الكيان الإسلامي السليم. * * * هذه الأركان الثلاثة هي العناصر الرئيسة في تكوين الشخصية الأزهرية الصحيحة، التي تصح نسبتها إلى الأزهر الشريف نسبة حقيقية مَنهجية، والتي يمكن رؤية إصلاح الأزهر من خلالها، حين يكون الأزهري معبِّرا عن الفكر الإسلامي الصحيح بوجود هذه المعالم الثلاثة. أما التوجهات الفردية أو الحزبية الدخيلة فلا يعبر أصحابها عن الأزهر وإن انتسبوا إليه خلال أحقاب ضعفت فيها الرقابة الفكرية والعقائدية في الأزهر الشريف، فصار ينتسب إليه حتى من يخالف عقائده ومَنهجه. إننا نواجه الآن دعوة لتوحيد صف الأزهر فكرا وأفرادا، دعوة لتوحيد الرؤية لدى الأزهريين، وهي دعوة صحيحة من حيث هي، ولكنها ليست كذلك من حيث الترتيب؛ إذ لا بُدَّ من (بيان الرؤية) قبل (توحيد الرؤية)، فالأزهر ليس خَواء؛ إنما هو مؤسسة لها فكرها ومَنهجها الأصيل المؤسَّس على عقيدة أهل السنة والجماعة وفقههم وسلوكهم، فالأزهر لا يحتاج إلى تكوين مزيج من الفكر والمنهج تتوحد عليه الرؤى، ولكن من اتفق والرؤية الأزهرية العريقة فهو الأزهري، ومن رفضها فلا حجر لنا على فكره ومنهجه وسلوكه، وإنما لا يصح منطقا انتسابه إلى تلك المؤسسة. وربما يتطرق البعض إلى قضية (الصواب) و(الخطأ) في تحديد المنهج الذي ينبغي أن يسود في الأزهر، فيدعو إلى عقد لجان واجتماعات للحوار والنقاش للوصول إلى الأطراف المصيبة أو الحلول الوسطية... وهي نظرية في غير مكانها ابتداءً؛ لأن القضية مع من يخالفنا ليست قضية صواب وخطأ، وإنما هي قضية (حقوق) واستقلال، بقطع النظر عن اختلاف الرؤى حول صوابية المنهج الأزهري أو خطئه، فهناك مِن أصحاب العقائد والمناهج المختلفة من يرى أن المؤسسة الأزهرية على غير منهج رشيد في العقائد والأحكام والتربية والسلوك، وتلك وجهة نظره، إلا أنها لا تبيح له اقتحام الأزهر ليغيِّر للأزهر فكره ومَنهجه، وهذا مبدأ لا بُدَّ من استيعابه وفَهمه تجاه هذه القضية. الكاتب: باحث متخصص في الشئون الإسلامية