"لا إله إلا الله، الدنيا لا تساوي شيئًا، "كل من عليها فان".. لا تظن يا عزيزي أنني قلت العبارة السابقة عقب وفاة أحد أفراد أهل الحارة الكرام، ولكن والحق يقال إنني قلتها عقب وليمة كبيرة كان فيها ما لذ وطاب من الطعام، ولك أن تسألني: ما الصلة بين الطعام وبين التصعب على الدنيا الفانية ؟ ساعتها سأقول لك إن الصلة واضحة بلا غموض ولا إخفاء، أليست المائدة عامرة بأطيب اللحوم وخاصة "اللحم الضاني"، والضأن هذا ألم يكن خروفًا قبل أن يتم ذبحه، وها هو الآن بعد أن غادر الحياة موزع ومقطع يزين الأطباق على المائدة العامرة، وفوق ركام الأرز الأبيض الذي يسر الناظرين تتلألأ قطع اللحم الحمراء كالشمس في عليائها وقد أحاطت بها السماء، لذلك إذا دعتك قدرتك على التهام "اللحوم الضانية" فتذكر الموت والضحية، وقد كان هذا هو الذي حدث لي عندما وقعت على وليمة بها كل أنواع "الهُبَر" من المسلوق إلى الغارق لشوشته في السمن البلدي، إلى العائم في بحر من المرق اللذيذ، إلى (المضمخ بالصلصة) وبجواره صحن الملوخية، إلى المكدس على تلال الفتة بالتقلية، ساعتئذ يا مولانا أكلت ما استطاعت معدتي استيعاب اللحوم، ثم أكلت بعد أن أتخمت معدتي حتى فاض الكيل بها، وبعد أن أكلت ترحمت على تلك الخراف التي أكلت منها، وتذكرت أبيات شعر شهيرة قال فيها الشاعر: لحم الخراف إذا ما طاب يعجبني***والطب قال: به الأدواء تنحسمُ ما أجمل اللحم فوق النار تنضجه***والسمن في جوفه والجمع يبتسمُ ولأن شهر رمضان الكريم قد هلَّ علينا وجاءت أيامه فقد اعتزلت ألحانه الشهيرة التي ما انقطعت عنها أبدًا، وكيف أنقطع عن حانة شربت فيها البوظة حتى كل متني، ولكن للشهر حرمته والصوم يمنعنا، ولكن طبق الحساء يفعل في خياشيمي ما تفعله أقداح الجعة والبوظة، فحين أن تتبادر إلى أنفي رائحته حتى ترتبك معدتي وترتجف أطرافي، وحدث ولا حرج عن أثر اللحم الغارق في الصلصة والمدفون تحت ركام الفتة. المهم أيها السادة أنه حدث ما لم يرد على بالي أبدا وكان ذلك بعد أن تناولت الإفطار في أول أيام رمضان، وكنا قد اجتمعنا أهل حارة درب المهابيل على مائدة عظيمة تبهج الخاطر نصبناها في منتصف الحارة، وبعد أن سمعنا صوت المدفع آتيًا من فوق القلعة أصابنا الطرب، وكان وقعه في آذاننا كأحسن معزوفة موسيقية أبدعتها أنامل أحد العباقرة على لوحة البيانو، وانطلق شيخ الحارة يرفع الأذان، والحق يقال إنه قبل أن يرفعه كنا قد رفعنا الصحاف إلى أفواهنا الجائعة المرتعشة، وانتهينا من طعام كالنغم، ورضينا بالحساء المحترم، وانطلقنا بالمزاج المنسجم، نحو لحم نرتجيه ونلتهم. وإذ لعبت اللحوم في رأسي وتاه عقلي من أثر المرق اللذيذ، فكان أن تركت المائدة وجلست على الرصيف وأخذت أرفع صوتي قائلا: يا أهل حارة درب المهابيل أليس منكم من يناولني أباريق الماء البارد، وعصائر قمر الدين المثلج، ومن بعده طبق الخشاف المبهج، فقام أحد الأشخاص وقال لي: وما الذي سيجعلنا نناولك ما تريد. فقلت له: من أنت يا شخص؟ قال الشخص: أنا من جماعة الإخوان. فقلت له: وتجلس بيننا لتأكل معنا، هذا والله شيء عجاب. فأخذ الشخص يهرطق بكلمات غير مفهومة أظهرت أنه افتقد العقل فما كان مني إلا أن قلت لأهل الحارة بصوت مرتفع: أيها السادة هل تعلمون أن العلم الحديث أثبت أن احتمال وجود كائنات عاقلة في المريخ هو نفس احتمال وجود تلك الكائنات في الإخوان ! ولأن وجود ذلك الكائن الإخواني بيننا قد أثار وجيعتنا وهيج مشاعر الغضب داخلنا لذلك قام أهل الحارة بتفتيشه وتفتيش الحارة مخافة أن يكون قد زرع لغما أو قنبلة في صناديق القمامة، وكلكم تعلمون أن الشاعر يقول: شبيه الشيء مشدود إليه، وما أن اطمأنت قلوبنا حتى طلب مني أهل الحارة أن أطلق لساني وأحكي لهم قصة الخرفان، فقلت لهم: هل تعلمون أنني قابلت خروفا حقيقيا عند القلعة مساء أمس وقبل أن أتناول سحوري، وعندما أخذ الخروف يتمحك فيَّ ويمأمئ انصرفت عنه ولكنني وجدته يقع بجانبي وإذا به يتكلم كما يتكلم البشر، وكان هذا من الأشياء الغريبة التي أكدت لي أن يوم القيامة قد اقترب. قال أحد أهل الحارة: نريد أن نعرف منك يا أبو يكح الجوسقي ماذا قال لك الخروف ؟ قلت للحارة وقد اجتمعوا حولي: قال لي الخروف وهو يتحدث بلسان الخرفان: كنا، نحن معشر الخرفان سابقًا نتحدث بلغة خاصة بنا، أسوة بكم معشر البشر، هذه اللغة لا يفهمها أي حيوان غيرنا، ولكن لغتنا رغم أنها تزعجكم أيها البشر فإنها كانت ذات وقع موسيقي جذاب على آذاننا، لم نكن نمأمئ مثلما عليه الحال الآن لأن المأمأة بدأت عندنا فيما بعد، وتعلمون يا سيد جوسقي أن جميع حاجاتنا ورغباتنا وحتى عواطفنا نعبر عنها بالمأمأة. ولكن ما هي المأمأة؟ ماء ماء. هي عبارة عن مقطعين صوتيين، أحدهما غليظ وثخين، والآخر رفيع، يصدران الواحد إثر الآخر. هذه هي المأمأة وهي لغة الخرفنة، ولغة الخرفنة لا تعرف إلا طاعة الراعي الذي يرعانا، لا نستطيع أن نمأمئ دون رضاه، وقد روى لنا الراعي أن الدنيا مليئة بالذئاب، فصدقناه، وكنا نرى الخيل ذئابا، والأسود ذئابا، والقطط ذئابا، كل شيء في حياتنا استحال ذئبا فأصبحنا نكره العالم كله. وهنا يا أهل الحارة أوقفت الخروف عن المأمأة وقلت له: ولكن ما سبب المأمأة ؟ قال الخروف لي: كنا نخاف من العسكري، وكانت "لية" كل خروف منا ترتجف وتهتز بشدة إذا رأت أحد رجال الشرطة، ونظرًا لأننا نسير في صفوف متساوية لذلك كانت "لية" خرفان الصف الأول هي التي تضطرب وتهتز ولكننا ونحن نسير في الصفوف الخلفية لم نكن نرى هذا الاهتزاز، وكنا نظن أن قياداتنا من خرفان الصفوف الأولى ستواجه بقوة وشموخ أي شرطي. فقاطعت أيها السادة الخروف المتكلم وقلت له: وما الذي كان بينكم وبين رجال الشرطة، لماذا تخافون منهم ؟ هل أنتم لصوص ؟ فقال لي الخروف: أعوذ بالله، نحن لسنا لصوصا نحن أشرف خرفان على وجه الأرض، كل ما في الأمر أننا كنا نأكل البرسيم من أي غيط يقابلنا. أومأت له برأسي، عفوا أقصد أنني مأمأت له برأسي وقلت له أكمل حكايتك يا خروف، فقال: أصدرت لنا قياداتنا من الصف الأول قرارًا جاء فيه أن أي خروف يرى شرطيا فعليه أن يقول بملء أشداقه: ماااء ماااء، لتنبيه كل الخرفان وحتى يلوذوا بالفرار، وعلى كل خروف يسمع المأمأة أن يمأمئ هو الآخر، وهكذا يا سيدي أصبحنا نمأمئ في حالتين، إذا رأى أحدنا شرطيًا، أو إذا سمع أحدنا مأمأة خروف آخر. فقلت للخروف: ولكن ما الفائدة التي تحققت من هذه المأمأة ؟ فقال لي الخروف: كل الفائدة ؟ قلت له: كيف ؟! قال عندما مأمأنا أخيرا قامت قياداتنا بالهرب إلى قطر. قلت له: وأنتم هل هربتم ؟! قال: لأ طبعا، بل ظللنا نمأمئ وما زلنا نمأمئ وسنظل نمأمئ. قلت له: وما الذي دفعكم إلى الاستمرار في المأمأة. قال وهو يمأمئ: لأن قادتنا لم يأمرونا بالكف عن المأمأة. وهنا قلت لأهل الحارة وأنا أنهي حديثي: هل تعرفون أن المعرفة نسبية وفقًا لنظرية آينشتين. فقالوا لي بصوت واحد: كيف ذلك يا جوسقي ؟! قلت: ما كان آينشتين أن يقول إن أكبر سرعة في الكون هي سرعة الضوء لو رأى سرعة هروب قيادات الإخوان من رابعة، وكان أسرع منها هروبهم إلى قطر. وهنا قال عم مغاوري صاحب المقهى منهيًا الحديث: هيا أيها السادة فلنذهب لنصلي المغرب فقد اقترب وقت العشاء ولكنني أريد أن أقول لكم إنني تعلمت اليوم أشياءً كثيرة ومهمة جدا، ولكن الآن خطر على بالي سؤال مهم. فقلت له: ما هو هذا السؤال يا عم مغاوري؟ قال مغاوري: بعد أن سمعنا ورأينا أريد أن أعرف الفارق بين الإخوان والموت ؟ قلت له: الفارق أنه ليس من الضروري إذا مت أن تدخل جهنم، والفارق الثاني هو أن الخروف الذي كنت أتكلم معه أمس مات، ولكنه لم يدخل النار أو الجنة. فقال لي أهل الحارة: يا سبحان الله ! ولكن أين دخل ؟ قلت لهم: دخل بطوننا فقد كان هو الخروف الذي ذبحناه اليوم لنأكله، بالهناء والشفاء.