مع الشهداء الشهداء أصحاب كرامات وأحوال..تجد ذلك فى لفتاتهم وحركاتهم وسكناتهم.. فى كلماتهم وأفعالهم وأعمالهم.. فى أخلاقهم وسلوكهم وآدابهم.. ولأنهم مصطفون من رب العباد، فهم يكونون عادة فى حالة خاصة من الرقى الإيمانى والسمو الروحى والارتفاع فوق المادة وجواذب الطين.. إن بعض الناس قد يطلبون الشهادة لسنوات، وربما لعقود، لكن الله تعالى لا يعطيها لهم ولا يتفضل بها عليهم.. هو لا يمنحها إلا فى الوقت الذى يشاء ولمن يشاء من عباده، لأنها اصطفاء واجتباء..يقول الحق جل وعلا: «إنْ يمسَسْكم قَرحٌ فقدْ مسَّ القومَ قرحٌ مثلُه وتلك الأيامُ نُداولُها بين الناسِ وليَعلمَ اللهُ الذين آمنوا ويتخذَ منكم شهداءَ واللهُ لا يحب الظالمين» (آل عمران: 041).. هؤلاء الشهداء رحلوا حقا عن عالمنا..انتقلوا فعلا إلى الدار الآخرة.. غير أنهم ليسوا كبقية من رحلوا أو انتقلوا.. هؤلاء لهم وضعية خاصة، وهى أنهم أحياء عند ربهم يرزقون..تأمل قوله تعالى: «ولا تقولوا لمن يُقتل فى سبيلِ اللهِ أمواتٌ بل أحياءٌ ولكنْ لا تشعرون» (البقرة: 451)..وقوله: «ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا فى سبيلِ اللهِ أمواتا بلْ أحياءٌ عندَ ربهم يُرزقون» 961). لقد أعاد إلينا شهداء ثورة ال 52 من يناير - الذين فاضت أرواحهم الطاهرة إلى بارئها خلال الثمانية عشر يوما - ومن تلاهم من الشهداء، صورة السلف الصالح من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم، الذين صفت نفوسهم وطهرت قلوبهم، فارتفعوا بأرواحهم ليحلقوا فى الملأ الأعلى.. بعيدا عن دنيا الناس.. عن الصغائر والسفاسف.. عن الشواغل الآنية بكل ما تحمله من أثرة وأنانية.. يتمنون أن يعودوا، فقط ليقصوا علينا ما هم فيه من نعيم.. روى أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أُصيب إخوانُكم بأُحدٍ جعل الله أرواحَهم فى أجوافِ طيرٍ خُضرٍ تردُ أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهبٍ فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا فى الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله: «فَرِحين بما آتاهُم اللهُ من فضلهِ ويستبشرون بالذين لم يلحَقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهِم ولا هم يحزنون» (آل عمران: 071). لقد أعاد إلينا هؤلاء الأبطال المغاوير والغر الميامين صور مواكب الشهداء الأبرار عبر العصور والدهور، الذين قدّموا أرواحهم رخيصة فى سبيل العقيدة.. فى سبيل القيمة والمبدأ.. فى سبيل الأوطان وكمال حريتها واستقلالها.. وهل تستطيع الأمم الحية أن تنهض من كبوتها، وتتقدم بعد تخلفها إلا من خلال هذا الصنف المبارك والطراز الفريد من الرجال؟ إنهم لا يريدون لأنفسهم جاها أو مالا أو أرضا أو عقارا أو سلطانا مما يحلم به الناس أو تشرئب إليه النفوس.. هم فقط يريدون الحرية لأوطانهم والعزة والكرامة لأمتهم.. لقد كان صمودهم وثباتهم وتضحياتهم فى تلك الأيام الفارقة من تاريخ مصر سببا فى تلك الثورة الفتية التى أذهلت العالم وأثارت إعجاب الدنيا. من حقهم علينا أن نستعيد سيرتهم، وأن نضعهم موضع الإعزاز والتقدير والإجلال.. يجب أن تتناولهم بالدراسة والتحليل مناهج وزارة التعليم، على الأقل على مستوى المرحلتين الإعدادية والثانوية.. وأن توثق حياتهم واستشهادهم عن طريق الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية.. وأن تطلق أسماؤهم على الميادين والشوارع الرئيسية فى القاهرة وبقية محافظات مصر.. هذا أقل ما يجب فى حقهم.. من ناحية أخرى لا بد من القصاص العادل من القتلة والمجرمين الذين كانوا سببا فى استشهادهم، بدءا من الذين أصدروا الأوامر والتعليمات بالقتل، وانتهاء بالذين قاموا بإطلاق الرصاص.. ولن يتم ذلك إلا بتشريعات جديدة تتجاوز كل الثغرات والثقوب والعيوب فى التشريعات القديمة.. هذه هى مهمة المجلس النيابى بالدرجة الأولى، من حيث التشريع والرقابة والمساءلة للسلطة التنفيذية.. وأعتقد أن الشعب المصرى لن تقر له عين ولن يهدأ له بال حتى يأخذ بحق الشهداء، خاصة من هؤلاء المجرمين الذين قاموا بطمس الأدلة والقرائن، أملا فى الهروب من القصاص.. لذا فإن الثورة مستمرة. [email protected]