آخذ نفسي وأنصرف من بين الأحداث الدامية التي تشهدها بلادي ، وأبتعد عن التحليلات والكلمات التي تتناول ما يجري على شاشات القنوات الفضائية والأرضية ، وعلى صفحات الصحف والمواقع الإلكترونية ، وأفرغ لتحية الشهداء الذين قضوا إلى رحاب الله في ثورة الشرف والكرامة والعزة ، بأيدي المجرمين والقتلة واللصوص الذين استباحوا مصر على مدى سنوات طوال ، دون أن يختلج لهم جفن أو يطرف لهم رمش . لقد ضاعت قدرتي على الكتابة ، وانفلتت الكلمات من بين أصابعي ، وصار ذهني مشوشا ، أمام مشاهد الحشود المليونية الغاضبة التي خرجت على مدى عشرة أيام ، كما لم يحدث من قبل في تاريخ مصر الحديث والقديم ، بعد أن ظن الناس أن مصر قد ماتت إلى الأبد ، وأن قدرة الإجرام الحاكم والسلطة المستبدة الفاشية ، والفساد الذي تجذر في الأجهزة والأفراد اللصوص الذين يسرقون بالقانون ؛ قد صار غالبا على كل أمر ، وقادرا على كل شيء .. وأن قدرة المصري على الحركة والغضب والثورة قد ماتت وتلاشت إلى الأبد .. لقد فاجأ الشعب المصري بشبابه وشيوخه العالم كله ، وكان الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر من أكثر من فاجأتهم ثورة الشرف والكرامة والعزة ، التي تضم ملايين الرجال والنساء ، يرفضون الإجرام الحاكم والظلم المستبد والفساد الفاجر .. لقد خرج الشعب المصري بلحمه العاري ليواجه القتلة من أجهزة الأمن وأزلام النظام وبلطجية الحزب الحاكم ، وليعلن على الدنيا كلها أن الحرية غالية ، وأنه سينتزعها انتزاعا ولن يفرط فيها ، وأنه سيموت استشهادا للدفاع عنها واستعادتها ممن سرقوها ، وحبسوها في القيعان المظلمة . لقد سقط الشهداء الأبرار في ساحات الشرف والكرامة والعزة ، وهم أقوى من كل الجيوش والميليشيات وكتائب الأمن المركزي ومباحث أمن النظام القاتلة .. لقد انتصر الدم على السيف ، وصار دماء الشهداء رعبا لا يتوقف للسفاحين والقتلة ، يطاردهم إذا ناموا ، ويرافقهم إذا قاموا ، ويعشش في رءوسهم وقلوبهم حتى يلقوا مصير الشهداء، ويدخلوا نار جهنم بإذنه تعالى ! لقد أعلنت الأممالمتحدة أن عدد الشهداء حتى اليوم التاسع من الثورة المباركة بلغ أكثر من ثلاثمائة شهيد ، وأن عدد الجرحى والمصابين قارب خمسمائة جريح ومصاب ، وأن عدد المفقودين تجاوز خمسمائة مفقود ، وغالبا ما يكون هذا المفقود قد خطفته أجهزة القتل والترويع التي تخلت عن كل قيمة إنسانية ، وأصبحت تتحرك بلا ضمير ولا حس ولا شعور غير الولاء للنظام المجرم الحاكم . ومع ذلك فإن إعلام النظام المجرم وصحفه وأبواقه تتجاهل هذه الدماء الطاهرة المباركة ، وتتكلم عن الأمن المفقود ، وتتناسى أن النظام المجرم هو الذي أطلق المجرمين واللصوص والبلطجية ، ليذبحوا ويحرقوا ويدمروا .. ترى لو كان هؤلاء الشهداء مجرد كتاكيت صغيرة .. أما كان ذلك موجبا للحزن عليهم ، وذكرهم والترحم عليهم كل لحظة ؟ ولكن الإعلام المجرم يتضاحك ويرتدي الملابس الملونة الزاهية ، وكان في مناسبة قريبة مات فيها عدد قليل من الناس بحكم عمل إرهابي ؛ يرتدي السواد وينوح ، وجعل الشعب كله في مأتم دائم ليل نهار على مدى أسابيع .. آه يا مرتزقة .. يا خدام الاستبداد والعار والذل ؟ إن الشهداء الأبرار الذي تركوا أرامل وأبناء وآباء وأمهات وأقارب يبكونهم وتحترق قلوبهم من أجلهم ، يذهبون إلى ربهم جل وعلا قائلين له : لقد قمنا بواجبنا تجاه أمتنا وديننا ووطننا ، ونسألك وأنت العادل ، أن تجعل أسرهم تعيش مثلما تعيش أسرنا وأهلونا .. لقد قتلونا بالباطل ، وأنت ستحكم عليهم بالعدل وتجعلهم عبرة لمن لا يعتبر ! لقد حاول المجرمون القتلة أن يغطوا على جرائمهم الخسيسة بإعلام مضلل وأقلام لم تتوضأ ، وأبواق مأجورة ، لا تستحي من الله ومن الناس ، والأكثر عجبا أنهم استعانوا بالعوالم والغوازي والمشخصاتية والطبالين والزمارين ممن يسمونهم بالفنانين- وليس بينهم وبين الفن صلة أو نسب- وأفراد ينتسبون إلى لعب الكر ة ، وراحوا جميعا يدافعون عن الطغيان ويكرسون العبودية له ، وذلك لأنهم جميعا يغترفون أموالا حراما بغير حساب من دم الشعب المصري وعرقه ودموعه ! ولكن الشعب الجريح رفضهم ورفض كلماتهم ومازال صامدا في ميدان الشرف والكرامة والعزة لانتزاع حريته ومعاقبة المجرمين والقتلة واللصوص . لقد كذب اللصوص المجرمون القتلة على الله والناس ، والتمسوا العون من الأعداء وخصوم الوطن والدين ، ويكفي أن من يدافع عنهم هو الكيان النازي اليهودي الغاصب في فلسطينالمحتلة ، وسادة واشنطن الاستعماريون الصليبيون المتوحشون .. ولكن أحرار العالم وأصحاب الضمير يدينون ما يقوم به الطغاة الذين ربتهم مصر وسمنتهم وأتخمتهم بالأموال والمليارات ! إنهم اليوم يزعمون أن أفراد الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني هم الذين يحركون الثورة ، ويندسون بين الجماهير لإشعال الثورة وصب الزيت على النار ، وواضح أنهم يريدون نزع شرف المبادرة من الشعب الصابر الشجاع الذي أذهل الدنيا بثورته المباركة العظيمة . المجرمون يحاولون إلقاء التهم وتعليق جرائمهم على قناة الجزيرة والإعلام الخارجي والمؤامرات الخارجية التي تستهدف مصر وشعبها ، وتناسوا جرائمهم وخيباتهم وما تقترفه أيديهم الملوثة بدماء الشهداء الأبرار التي ستطاردهم في كل مكان حتى تقتص منهم يد العدالة الإلهية ، ثم العدالة الإنسانية التي لن تتوقف عن مطاردتهم في كل مكان .. يجب أن ننحني بالدعاء على قبور الشهداء بكل إجلال وتقدير ، وينبغي أن نقدمهم في بساطتهم وإخلاصهم وتضحياتهم للناس ولأجيالنا القادمة .. أما المجرمون القتلة ؛ فهم أوهي من بيت العنكبوت لأنهم اعتمدوا على غير الله : " مثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " ( العنكبوت : 41) . أما أنتم أيها الشهداء ، فنتلو عليكم قوله تعالى : وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ .فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ . الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " ( أل عمران : 169- 173) . صدق الله العظيم