السياسة بين الثورية والغوغائية! فى تقديرى أن هناك فروقاً واضحة بين الثورية والغوغائية. الثورية مستمدة أساساً من جسارة ثورة 25 يناير، ومن الشعارات الراديكالية التى رفعها شباب الثوار، الذين هبطوا إلى ميدان التحرير وغيره من الميادين الثورية من مقاعدهم أمام شاشة الإنترنت، للقيام بمظاهرة احتجاجية ضد النظام يوم احتفال الشرطة بعيدها، وسرعان ما انضم إلى آلاف الشباب المحتجين ملايين المصريين من جميع الاتجاهات السياسية والأعمار. كانت الصورة باهرة يوم 25 يناير وفى الأيام التالية له، والتى ارتفع فيها الشعار المدوى «الشعب يريد إسقاط النظام»، والذى أصبح من بعد شعاراً عالمياً تبنته حركات احتجاجية أخرى سواء فى الوطن العربى أو خارجه.. ونجحت الثورة الشعبية فى إسقاط النظام بالفعل، وفى الضغط الشديد على الرئيس السابق حتى أعلن تنحيه عن السلطة، وتسليمها إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ودارت عبر الشهور الماضية التى تلت يوم الثورة التاريخى أحداث شتى تتراوح بين السلمية والعنف الشديد. وسقط شهداء جدد ومصابون فى مصادمات عنيفة وقعت أمام ماسبيرو وفى شارع «محمد محمود» وأمام مجلس الشعب. وتضاربت التحليلات فى المسئولية عن هذه الأحداث. وهناك اتجاه يدين مباشرة قوات الأمن والشرطة العسكرية باعتبارها مسئولة عن الأحداث، وهناك اتجاه آخر يدين المظاهرات على أساس أنها لم تكن منظمة بحيث يعرف بدقة من المنضمين إليها، ولم تكن سلمية بحكم أنها تضمنت اعتداءات مقصودة ضد قوى الأمن والشرطة، وانتهت بالإحراق المتعمد للمجمع العلمى مما مثل فى الواقع جريمة بالغة الخطورة، لأنها شكلت تهديداً للتراث التاريخى المصرى النادر، بالإضافة إلى كونها عدوانا صريحا على السلم الاجتماعى. وبالرغم من كل هذه الأحداث، إلا أنه يمكن القول إن شباب الثورة نجحوا فى استخدام المظاهرات السلمية لتحقيق أهداف الثورة، ومن أبرز نجاحاتهم التعجيل بالمحاكمة الجنائية للرئيس السابق ورموز نظامه، والضغط لإقالة وزارة «أحمد شفيق» ثم وزارة «عصام شرف»، والذى بالرغم من أنه كان من ترشيح الميدان إلا أنه فشل فى نظر الثوار فى أداء مهمته. غير أنه بالإضافة إلى الثورية التى مارسها شباب الثورة بصورة إيجابية منتجة تصاعد - للأسف - خطاب غوغائى تبنته بعض ائتلافات الثورة.. هذا الخطاب احترف رفع الشعارات الزاعقة، ورفع المطالب التى يستحيل تحقيقها فى الأجل القصير، وتحول هذا الخطاب فى الفترة الأخيرة على يد من يسمون «الاشتراكيون الثوريون» وغيرهم من التيارات إلى دعوة صريحة لهدم الدولة وهدم الجيش ذاته، بزعم أنه جيش «مبارك» وليس جيش الشعب المصرى! ولا شك أن هذه الدعوات الفوضوية لهدم الدولة ومؤسساتها تعد دعوة صريحة للتخريب، بل إنها تعد عدواناً على ثورة 25 يناير التى ما قامت لهدم الدولة وإنما اشتعلت لإسقاط النظام. ومن هنا يمكن القول إن هذا الخطاب الغوغائى والذى تتبناه - للأسف- وجوه معروفة من النشطاء السياسيين كباراً وشباباً يعد طعنة فى صدر الشعب المصرى، الذى خرج بالملايين فى أول انتخابات ديموقراطية مصرية أسفرت عن مجلس شعب جديد يعقد أول جلساته يوم أمس. وأصحاب هذا الخطاب الغوغائى ومنهم من فشل فى الانتخابات وعجز عن اكتساب ثقة الشعب يحاول الآن الطعن فى الانتخابات ورفض نتيجة الصندوق، والانقلاب على الشرعية الديموقراطية باسم الشرعية الثورية. وقد وصل التطرف لدى بعض أصحاب هذا الخطاب الغوغائى الي اقتراح تشكيل لجان قيل إنها لمراقبة البرلمان القادم، وهذا فى حد ذاته يعد تجاوزاً للتقاليد الديموقراطية التى تنظم أصول المعارضة السياسية، والتى تجعل قرارات البرلمان وتشريعاته تحت رقابة الرأى العام. غير أن هناك دعوات غوغائية أخرى تصاعدت لإفساد يوم انعقاد أول جلسة للبرلمان الجديد يوم 23 يناير، وذلك لتنظيم مسيرات ومظاهرات احتجاجية رافعة مطالب متنوعة، تحاول اختراق الأسوار التى تحيط بمجلس الشعب. ومن ناحية أخرى هناك دعوات غوغائية أخرى لتخريب الاحتفال بعيد الثورة الأول يوم 25 يناير، من خلال مظاهرات احتجاجية قد تتطور إلى محاولة الاعتداء العمدى على بعض المنشآت العامة. الصراع بين الشرعية الديموقراطية والتى تتمثل فى إرادة الشعب المصرى واختياره للأمن والاستقرار والتنمية، والشرعية الثورية التى تطالب بشرعية ميدان التحرير إلى الأبد، يمثل فى الواقع أكبر خطورة على مستقبل الثورة المصرية التى قامت لتقضى على طغيان النظام القديم ولم تقم لتأسيس طغيان جديد باسم الشارع السياسى!