أحاول أن أصل إلى بيته قبل الساعة السادسة، فهو يخرج فى السادسة إلا دقيقتين أو ثلاث، ويركب إلى جوارى فى السيارة، وننطلق إلى حيث نجلس معا حتى العاشرة مساء. جربنا مكانا بعد آخر حتى استقررنا على فندق هيلتون رمسيس، ولا يمكننى أن أعبر عن مدى سعادتى بالقرب من نجيب محفوظ، إذ نتحدث طوال هذه الساعات فيمر الوقت فى لمح البصر! قرأت عليه قصصى جميعا، كما قرأت عليه رواياتى واحدة بعد أخرى، وكنت أعلم كم هو رقيق وحساس ومجامل، ومن ثم كنت أحاول أن أتعلم منه كيف ينظر إلى العمل الفنى؟ غالبا ما كان يعرض رأيه فى صيغة سؤال جوهرى عن مضمون العمل الأدبى، أو عن شكله الفنى؟ ومن خلال محاولة الإجابة عن السؤال تبدو رؤيته وتتضح، إذ لم يبخل علىِّ بنصيحة، ولا بمعلومة، ولا بتصحيح، أو تغيير ما يرى أنه يمكن أن يضيف إلى العمل الأدبى، وكذلك قد يقترح نوعا من الحذف لجزء من أجزاء العمل، ويقدم أسبابه الوجيهة، ويشرح رؤيته لمعنى الصدق الفنى، كما تتجلى فى كلماته مناطق السحر والجمال فى الشخصية الإنسانية، وفى طبيعة العلاقات بين البشر، ثم فى الحياة ككل، هذه الجوانب التى يسعى الأدب إلى كشفها والتعبير عنها. ولم أكتف بقراءة ما أكتبه فقط، وأصبحت أحضر معى كتابا أو مجلة أدبية أو مجموعة قصصية، لأسمع رأيه النقدى، فهو ناقد خبير واسع الصدر جدا، فكما هو واسع الصدر على المستوى الإنسانى، كذلك على المستوى الأدبى، وهو قادر على التعامل مع مختلف الأساليب الأدبية، ومع شتى المدارس الفنية، إذ يتذوق أى شكل من أشكال الفن، ويستمتع بكل نوع من أنواع الجمال. فهو عاشق للشعر، ويحفظ الكثير من الأشعار العربية، القديمة والحديثة، كما أنه مغرم بالشعر الفارسى، وخصوصا شعر حافظ الشيرازى، وقد استخدمه بلغته الفارسية فى عمله الأعظم «ملحمة الحرافيش». ومع ذلك الحب للشعر التقليدى القديم، فإنه قادر على تذوق الشعر المعاصر، كما أنه كان يحب أن يطَّلع على ما يُكتب تحت اسم قصيدة النثر. فهو ينظر بعمق إلى جوهر الفن، بغض النظر عن شكله الخارجى، أو تقاليده المستقرة، فثمة حرية مطلقة يمنحها للمبدع، ويعدها جزءا مهما من روعة العملية الإبداعية وجمالها، ويمكنك أن تراها بوضوح إذا تأملت فى مراحل تطور فن الكتابة عند نجيب محفوظ، ففى كل عمل من أعماله، ثمة تجريب، وتطوير، وتميز عن أعماله الأخرى، سواء السابقة أم اللاحقة. هذا التجدد الدائم والتجريب المستمر والتطور المتواصل والتجويد الدؤوب هو أهم ما يميز المبدع العظيم نجيب محفوظ، وهو ذاته أهم ما يميزه كمتذوق واسع الصدر وواسع الأفق، إذ يسمح للفنان المبدع أن يتجاوز الأطر الفنية المعروفة أو يغير الأشكال المستقرة، أو حتى يحطم القوالب التقليدية، بشرط أن يتمكن فى النهاية من تقديم فن حقيقى جديد وجميل ومفيد.