واحدة من أهم مهارات الأستاذ فهمى هويدى، هى قدرته على بلورة الخطاب الشعبوى والطائفى، ومن ثم إعادة طرحه فى لغة رصينة تؤدى الغرض التحريضى نفسه، ليصل إلى طبقات أخرى قد لا تصل إليها دعاية الشارع المتطرفة مباشرة، هكذا فإن القارئ الذى يتابع مقالات الأستاذ هويدى لفترة طويلة، خصوصا بعد ثورة يناير، لا بد أن يجد نفسه قد تشبع تماما بكراهية «الليبراليين والعلمانيين واليساريين والكنيسة»، هكذا سلة واحدة، فضلا عن احتقار «النخبة» التى يحمّلها الأستاذ هويدى كل جرائم العصر، وكأنه ليس واحدا منها، لكن كل ما سبق يمكن وضعه فى كفة، مقابل ما وصل إليه الأستاذ فى مقاله «استعداء واستعلاء» فى جريدة «الشروق» بتاريخ 6 ديسمبر الجارى، إذ يتساءل مستنكرا: «لماذا أصبحت خصومة أغلب الليبراليين والعلمانيين فى مصر قريبة الشبه من بُغض الإسرائيليين وتوجسهم مما وصف بأنه صعود لما يسمونه بالإسلام السياسى؟ وإذا تصورت إسرائيل أن ذلك الصعود يمثل تهديدا وجوديا لها، فكيف ولماذا تصور الليبراليون والعلمانيون عندنا أن الإسلاميين يشكلون تهديدا مماثلا لوجودهم؟». الفقرة السابقة نقلة جديدة ومعتبرة فى حرب الأستاذ هويدى على كل من لا ينتمى إلى تيار الإسلام السياسى، الذين يسميهم الأستاذ عادة «الكارهون لكل ما هو إسلامى»، هنا يجمعهم الكاتب الكبير فى سلة واحدة مع الصهاينة فى وحدة التخوف والمصير، لقد صدم ذلك من كانوا ينتظرون من الأستاذ هويدى -بوصفه كان لوقت طويل أحد مفكرى الوسطية- أن يسهم فى إزالة اللبس لدى قارئه بخصوص فوضى المصطلحات التى ملأت المجال السياسى المصرى بعد الثورة، فى الوقت الذى يرفع فيه أئمة التطرف الأدعية من فوق المنابر «اللهم عليك بالليبراليين والعلمانيين»، انتظرنا من الأستاذ هويدى أن يسلك مسلكا آخر، وأن يشرح لقارئه أن الليبرالية كانت مدرسة الوطنية المصرية، سواء فى شقها السياسى على يد الزعامات التاريخية لحزب الوفد، أو شقها الفكرى على يد أحمد لطفى السيد وطه حسين، وصولا إلى الليبراليين بمختلف مشاربهم فى حركة كفاية و6 أبريل والتيارات الشبابية التى فجرت ثورة مصر، والذين ما زال بعضهم يحاكم عسكريا حتى الآن، فضلا عن استشهاد بعضهم الآخر، وفقد الكثيرين أعينهم، فإذا بالأستاذ هويدى يصم «أغلبية» الليبراليين بالتوحد مع إسرائيل فى التخوف من نتائج الانتخابات. تلك اللعبة.. الذكية، الربط بين تخوف الليبراليين وقلق الإسرائيليين من صعود «الإسلام السياسى»، تعتمد على أن القارئ لن يطّلع غالبا على الصحافة الإسرائيلية، التى أعربت عن تخوفها بالفعل من نتائج الانتخابات المصرية، لكن تخوفها لم يكن من «نهضة» إسلامية، أو ديمقراطية، وإنما تتخوف إسرائيل من «صعود آيات الله فى القاهرة» (التعبير لصحيفة «هآرتس»)، وإذا استطاع القارئ الكريم أن يطّلع على الصحافة الإٍسرائيلية أو ترجماتها، سيكتشف أن السيناريو الذى ترسمه تلك الصحافة لصعود «التطرف» فى القاهرة، قد يكون سيناريو مقلقا لإسرائيل بالفعل، ولكنه مدمر لمصر نفسها، إذ تفترض تلك الصحف أن الإٍسلام المتشدد «السلفيين» سوف يجذب الإسلام المعتدل «الإخوان» إلى تطرفه، كما يقول -مثلا- إلكس فيشمان فى «يديعوت أحرونوت» «العشرون فى المئة التى حصل عليها السلفيون حرجة، وذلك لأنهم سيقومون بإملاء جدول الأعمال فى السياسة المصرية. لأن الإخوان المسلمين، الذين يتنافسون على ذات الشريحة من السكان، لا يمكنهم أن يسمحوا لأنفسهم بأن يكونوا (أقل إسلامية) من السلفيين». والواقع أن الصحافة الإسرائيلية التى ما زالت تنوح على خسارة مبارك، لا تتوقف عن رسم سيناريوهات كابوسية لمصر، فتفترض أن التطرف فى النهاية سوف يلتهم الاعتدال المصرى، وسينتهى الأمر إما إلى صفقة بين الجنرالات والمتطرفين على الطريقة الباكستانية، أو إلى دولة ملالى على النمط الإيرانى. أو إلى دولة فوضى على النمط الأفغانى لو احتدم الصراع بين الجيش والإسلاميين. فهل تحب عزيزى القارئ أن تعيش فى باكستان أو إيران أو أفغانستان؟ لا أظنك تريد ذلك، بل أظنك ترغب فى دولة ديمقراطية متوازنة يحيا فيها جميع المصريين، فهل يجعلك ذلك «شبيها بالإسرائيليين فى قلقهم من صعود الإسلام السياسى فى مصر»؟ فلتسأل الأستاذ هويدى! تشبيه الأستاذ هويدى لليبراليين المصريين بالعدو الصهيونى، فضلا عن أنه خطيئة تستوجب الاعتذار، فإنه يعتمد النظرية السطحية «عدو عدوى صديقى»، كأن خشية إسرائيل من التطرف فى مصر ينبغى أن تجعلنا نرحب بالتطرف، يعنى ذلك أن نحب تنظيم القاعدة أو نؤيد القذافى أو نعشق صدام حسين، لمجرد أنهم كانوا خصوما لأمريكا (بعد أن كانوا أصدقاءها)، وننسى أن هؤلاء أساؤوا لنا ولأنفسهم وشعوبهم أكثر من أى عدو، يقول المثل الشعبى: «من لا يرى من الغربال فهو أعمى»، ولئن كان فوز الإخوان المسلمين طبيعيا ومنطقيا ومستحقا، فإن من لا تقلقه نتائج السلفيين -أهل تحريم الديمقراطية- فهو ليس أعمى، هو فقط منحاز إلى درجة لا تصدق.