الموت ليس واحدا رغم أننى تسلحت بكل الآيات القرآنية والأدعية التى تحرسنى فى مثل هذه المواقف، وتحنن قلب الحجر علىّ، فإنه استمع إلى كلامى بتعبيرات وجه معادية، ثم سألنى سؤالا، يعنى أنه لا يريد أن يسمع تفاصيل مثلا «عايزة إيه فى النهاية؟». قلت «أنا عايزة أشعات المصاب»، قال «سياسة المستشفى تمنع خروج الأشعات من المستشفى». قلت له «اعمل لى استثناء وأنا أوعدك إنى هارجعهم بكرة واقولك هاعمل بيهم إيه، خطوة خطوة، يعنى حضرتك هتبقى عارف خط سير الأشعات». قال «ما اقدرش اعمل استثناء» روحى لمدير المستشفى. قلت له «حضرتك مش عايز تعرف أنا عايزة الأشعات ليه؟». اعتقدت أننى نجحت فى إثارة فضوله فقال «ليه؟». شرحت له ما أعتقد أنه اكتشاف إنسانى، نفسى يستحق أن يعرفه كل الأطباء ويتعاملوا به، وهو أن أهل المصاب الذين يفعلون أى شىء من أجل إنقاذه حتى ولو كان بلا نتيجة يكونون أهدأ من أهل المصاب المنتظرين على باب غرفة الرعاية، عاجزين تماما ومكتوفى الأيدى ينتظرون سماع أى خبر، وأن الموت مختلف عن الاحتضار، الموت أسهل كثيرا من الاحتضار، وأن الاحتضار نتيجة مرض مزمن طويل أسهل من الاحتضار نتيجة مرض حاد مفاجئ، والاثنان أسهل من الاحتضار نتيجة حادثة، والثلاثة لا يمكن مقارنتها بالاحتضار نتيجة جريمة قتل. وأما أن كان الذى يحتضر شابا وقتل لأنه يسعى لعمل طيب، فالمفترض أن يكافأ عليه لو كان فيه عدل على الأرض. فلك أن تتخيل كيف ستكون حالة أمه وأبيه، لن يستطيع أحد أن يصل بخياله أبدا إلى هذه الحالة، من قال تعددت الأسباب والموت واحد لم ير موتى لأسباب مختلفة. أنا رأيت بعينى أن الموت ليس واحدا. وحاولت أن أشرح للطبيب المدير هذا المعنى. ثم رأيت بعينى أيضا ما قاله أستاذنا سيد حجاب «إن الموت يبقى أهون لما نقابله صحبة». والموت يبقى أهون عندما نحاول أن نجد وسيلة للإمساك بالحياة حتى النفس الأخير. مجرد محاولة التمسك بالحياة بجعل الموت أهون. وده سر جملة عملت اللى عليك فى العزاء. كنت أحاول أن أوهم أم المصاب الذى يحتضر أنها ستعمل اللى عليها بأن نأخذ الأشعات ونعرضها على كبار الأطباء، وننتظر فى العيادة، وندفع الكشف ونركب المواصلات ونقف فى الإشارات. كل هذه العذابات الصغيرة تشوش قليلا على العذاب الأكبر. لم يقتنع المدير بخطتى، وأحمد الله أن لم يبلغ عنى مستشفى الأمراض العقلية، وذلك لأنه -غالبا- شك فى أننى كاذبة وأحاول أن أنصب للمستشفى كمينا، وكاذبة أحسن قليلا من مجنونة. لم يثننى رفضه عن تنفيذ خطتى، فتعبير الألم على وجه الأم يطاردنى ويحرقنى، حتى أصبحت أنا نفسى أحتاج إلى فعل يلهينى. الغريب أننا عندما عملنا الجولة دون أشعات، ذهبنا إلى كبار الأطباء فى عياداتهم لنطلب منهم أن يزوروا المصاب فى المستشفى، الغريب أننا لم نقف ولا مرة فى أى إشارة، ولم يقبل ولا دكتور أن يأخذ ثمن الكشف، بل إن سكرتيرى الأطباء كانوا يثتثنوننا من الانتظار، فندخل إلى غرفة الكشف للقاء الطبيب بعد وصولنا العيادة بدقائق، ودون أن يعترض أى من المرضى المنتظرين بالساعات. ثم يتفاعل معنا الأطباء ويتحولون من جراحين كبار إلى معالجين نفسيين يواسون الأم والأب ويختارون أخف الكلمات وأرقها لشرح الحالة. أحدهم رأيت الدموع فى عينيه، وهو يتكلم عن حقنا جميعا فى المطالبة بالقصاص ممن أطلق الرصاص على الشاب. هذا لا يعنى أن خطتى فى التخفيف عن الأم لم تنجح، بل على العكس أضاف إليها الله نجاحا على نجاح، ففى كل مره ننجز شيئا كانت تضغط على يدى وتقول الحمد لله «ربنا حنيّن علينا».