إذن.. ما العمل؟! لقد بات واضحا لكل من يملك بصيرة أو مجرد بصر أن المسار الانتقالى الغريب والشاذ الذى فرضه المجلس العسكرى على المجتمع كله بإيعاز من جماعة الإخوان لتحقيق أطماعها المتهورة ومصالحها الضيقة دونما اعتبار لمصلحة البلد (هل ما زال هناك من يتذكر بالخير اللجنة إخوانية المزاج والهوى التى تصدت لمهمة تعديل الدستور الساقط؟)، هذا المسار المعوجّ المجافى لمنطق العقل انتهى إلى مأزق شامل خانق يمسك بتلابيب البلاد والعباد ويراكم يوميا كوارث وأزمات دفعت شرائح وقطاعات واسعة من الشعب إلى حافة الندم وربما الكفر بثورة رائعة نفذها برقى ووعى وبسالة ودفع فيها من أرواح ودماء أجمل وأنبل شبابه على أمل الخلاص مرة واحدة وإلى الأبد من القهر والظلم واللصوصية والتخلف، فإذا به، بعد أشهُر عشرة ضاعت وتسربت فى فوضى عارمة، يجد نفسه كأنه أمام خيار من اثنين أحلاهما زفت، فإما القبول بإعادة إنتاج النظام المدحور واستعادة عفنه فى ثياب جديدة، وإما تسليم الحاضر والمستقبل إلى أشد القوى والجماعات تخلفا وتسلطا ورجعية! ومن حسن الحظ أن السياسة عموما وكذلك حركة ومسار الثورات الإنسانية لا تعرف منطق الفرصة الأخيرة التى إذا أفلتت تنتهى الدنيا ويعم اليأس والقنوط، صحيح أن هناك أكلافا وأثمانا للنصر وإتمام التغيير والتحول الثورى قد تقل بالحكمة وحسن التصرف، وقد تزيد وتتضخم بسبب سوء التعامل وسوء النية والطوية، لكن إمكانية التصحيح والتصويب تظل دائما ممكنة، كما أن صناعة واجتراح فرص جديدة تبقى طول الوقت مسؤولية وواجبا على كل ثورى مخلص، بشرط أن يتحلى بالوعى والصبر والقدرة على التدبر والتفكير وإعمال العقل فى الواقع بمعطياته وظروفه المعقدة وغير المؤاتية طبعا، وإلا ما كان للثورة لزوم أصلا.. أى الثورى الذى لا يستسهل الركون إلى اليأس البليد ويستهلك طاقته ويسجن عقله فى زنزانة البكائيات والحسرة على الخسائر والفرص الضائعة. وأعود إلى واقعنا الراهن، حيث تكاد كل ملامح مأزق المسار الانتقالى المعطوب تتجسد فى حقيقة أن برلمانا يبنى أمام أعينا هذه الأيام باستخدام أغلب الخامات الرديئة والخربة الموروثة من عهد النظام الساقط، ابتداء من الفقر والبؤس الساحق الذى يشوه وعى كتل شعبية هادرة (نحو 40 فى المئة من السكان) ويسمح بثغرات هائلة تمر منها محاولات التلاعب بإرادتهم الحرة والتأثير فيها بالرشوة التافهة تارة (زجاجة زيت وكيلو سكر وقطعة من اللحم أحيانا)، وباللعب على عواطفهم -الدينية خصوصا- تارة أخرى، وانتهاء بتطويع آلة الدولة التى فسدت وضرب العفن فى أوصالها وأركانها لاستعادة سُنّة «التزوير» مجددا -وإن بدرجة مخففة من الفجاجة- بعدما تمت بنجاح عملية خصخصته وتحويله من «قطاع عام» إلى تزوير خصوصى لصالح مرشحين بعينهم ينتمون إلى جماعات منظمة تنظيما عصابيا مُحكَما ومدججة بوسائل وإمكانيات وثروات فاحشة فادحة ومجهولة المصدر أيضا. هذا البرلمان الذى يبنى ويتأسس على هذه الشاكلة وبتلك الخامات قضت مشيئة المجلس العسكرى وحلفاء ليله الطويل أن تكون أغلبيته هى صاحبة السلطة المطلقة فى صناعة دستورنا وصياغة مستقبلنا (على مقاسها) بغير حسيب ولا رقيب ولا ضابط.. فما العمل؟ وهل من سبيل للإفلات من مصير يبدو مظلما على نحو مخيف، أم أنه قدر أسود محتوم ولا أمل؟! الإجابة غدا...