اصطدمت أذنى، منذ أيام، بجملة قالها أحد الرجال -مع تحفظى على وصفه بالرجال- عندما كان يجلس بين «شلة» النادى يلعبون عشرة الطاولة، وهو يقول لهم بمنتهى الثقة والجبروت: «والله ما خرب البلد دى ووداها فى داهية غير شبابها»!! للحظة قلت فى نفسى: «يا نهار اسود».. عن أى شباب يتحدث ذلك الشخص، ماذا يعرف هو عن الشباب؟ وما البلد الذى كان فى قمة «انصلاح» أوضاعه، والشباب بعيدون عن خريطته وخريطة قيادته لهم؟ عمن تتحدث أيها الرجل؟ هل تتحدث عن الجيل الذى خيّب آمال أجيال؟ هل تتحدث عن بلد بمنطق الإحصائيات والأرقام، أغلب مواطنيه من الشباب، لكن قلب ورئة وأجهزة هذا البلد جاوز العمر الافتراضى، لأن أمثالك يتمنون أن يظل هذا البلد يعيش فى حجرة الأنعاش، ولكن هذا ما لن يحدث، فالذين ماتوا وفقدوا عيونهم وبصرهم وقويت بصائرهم وإرادتهم، من فقد رزقه ولقمة عيشه، من ناضل وضُرب واعتقل وحُبس فى محاكم عسكرية يقودها ويباركها جماعة «فوق السبعين».. هل البلد سينهض بهؤلاء أيها «الرجل»، الذى تتبرأ من شباب مصر الذين منهم من قتل فى سبيل أن تعيش أنت، وأمثالك للأسف، وعائلاتكم وأحفادكم فى وطن حر شاب يقظ واع وناضج يقدر معنى الحرية لا العبودية؟ لم تستغرق هذه الأفكار فى عقلى كثيرا، وترفعت عنها لأننى أعرف، بل وأراهن، على شباب هذا البلد، والنماذج كثيرة وجلية، لن أتحدث عن أبطال الميادين والثورة.. الشباب الأبطال الذى صنع من أجساده حوائط صد ودفاع عنا جميعا، ومن ينكر هذا فلا يستحق «حياة الأحرار التى يناضلون من أجلها ويعلموننا كيف تكون (العيشة الحرة)». لكن نماذج الشباب الذين يمنحوننى أنا وملايين مثلى الأمل والرهان على هذا الوطن كثيرة ومبهرة كل يعمل بطاقته ووفق أفكاره وأدواته، لكنه يعمل بحق، هم مجموعة من الأطباء الرائعين الشباب الذين كونوا جمعية أهلية باسم EMSA أو دارسى العلوم الصحية، وقد أقاموا مشروعات رائعة منذ سنوات مثل «عشاء فى الظلام»، وهى تجربة إنسانية فريدة لمشاركة فاقدى البصر من الأطفال أبسط تفاصيل حياتهم اليومية، وهى أن نتناول جميعنا -مبصرين ومكفوفين- العشاء فى الظلام الحالك، ومن يقوم بخدمتنا جميعا على المائدة شاب رائع اسمه عباس، «وهو محاسب كفيف» متطوع فى هذه التجربة ليذهلنا بأدائه وثقته وكفاءة الخدمة، كانت تجربة محرضة على فكرة أننا نعيش بجهل التجربة والخبرة، ننسى أن نضع أنفسنا فى مكان الآخرين، لا نعى بقدرات الآخرين وملكاتهم وقدراتهم، كنت خلال الأعوام السابقة قد شاهدت خيرة شباب أطباء مصر ومستقبلها القائمين على هذه الجمعية، وفاجأتنى رؤيتهم وثقتهم بأنهم قادرون على التغيير الإيجابى، هم يفكرون ويعملون وينفذون دون تهليل أو استعراض. فاجؤونى منذ أسابيع قليلة بمشروعهم الجديد «احمى طفلك»، وبحملتهم الرائعة للقضاء على الالتهاب الرئوى، والمفاجأة الكبرى أن هذا المرض القاتل يموت بسببه مئات الألوف من الأطفال فى العالم، ويعد المرض الأول والأخطر والمنسى فى المجال الصحى، فهو يفتك بالأطفال تحت سن 5 سنوات، وهو ما لا يسببه مرض مثل السرطان، ومع ذلك فإن حجم الاهتمام به غير كبير، نظرا لارتفاع ثمن المصل والتطعيم الواقى منه. فكر هؤلاء الأطباء الشباب، وعددهم 400 متطوع، من كليات الطب بمختلف محافظات مصر، فى بداية المشروع بعمل حملة لتوعية الأهالى بخطورة هذا المرض، وبالفعل بدأ التنفيذ بدعم معنوى وفكرى وطبى من الأستاذ الدكتور أحمد الشيمى أستاذ طب الأطفال بجامعة عين شمس والمشرف على هذا المشروع، وبالفعل بدأ التنفيذ على نطاق كل المستشفيات الجامعية فى مصر، وتم وضع خطة شديدة الذكاء والإبداع والابتكار، وهى التوعية عن طريق مسابقة لأهالى الأطفال، بحيث يجيبون عن بعض الأسئلة البديهية، التى من خلالها تصل المعلومة كاملة إلى الآباء عن خطورة ذلك المرض وأهمية التطعيم والنظافة والوقاية، ومن ثم يحصل الطفل على قصة مرسومة فى كتاب بعنوان «منتصر ينتصر على الالتهاب الرئوى»، وهو عمل تم بالتنسيق مع بعض من الطلاب الفنانين الشباب بكلية فنون جميلة، ويحصل الطفل أيضا على علبة ألوان. يفهم معنى المرض بشكل مبسط وربما تكون المرة الأولى فى حياته التى يحصل فيها على فرصة للتلوين. نتحدث عن 400 طبيب شاب، ظلوا لمدة أسبوع فى محافظات مصر ينشرون فكرة بسيطة تهدف إلى القضاء على مرض الالتهاب الرئوى نهائيا، خلال خمسة أعوام، بجهودهم الذاتية، محاولين تطويرها ونقلها إلى حيز التنفيذ من خلال توفير آلاف من جرعات التطعيم لهذا المرض، يستفيد منها الأطفال الأكثر عرضة للإصابة بالمرض، نتيجة إصابتهم بأمراض مزمنة. نتحدث عن شباب يملك الرؤية والهدف والطريق، ويعرف ماذا يريد، وكيف يتحقق، لا ينتظر أن يقيّمه الآخرون. إذن كانوا هم الشباب فى بناء البلد أو خرابها، هم ينجزون ويتحدون. كنت وما زلت منبهرة بكل كلمة قالها لى طبيب الامتياز الرائع «واحد من الذين يُفرحون قلب مصر والمصريين» د.محمد زعزوع، الذى ظل يتحدث عن مشروعه بمنتهى الوضوح والثقة والإصرار: هدفنا أن ننزل إلى الحضانات والمدارس فى كل أحياء مصر وقراها ونجوعها.. فصحة الأطفال مشروع قومى لا بد أن ننتبه إليه، ونضعه على قائمة أولوياتنا، لا بد من توحيد الصفوف، أطباء، ومستشفيات، ومراكز، وزارة صحة، وجمعيات أهلية، بالفعل بدأنا تجميع كثير من الجهات المهتمة، وأنشأنا ما يسمى «الائتلاف المصرى للقضاء على مرض الالتهاب الرئوى للأطفال»، وبكل فخر انضمت إلينا هيئة إنقاذ الطفولة، وهى واحدة من كبرى المنظمات الصحية العالمية، وخمس جمعيات أهلية أخرى. درجة حماس الشباب الأطباء الذين شاهدتهم داخل مستشفى عين شمس الجامعى كنموذج للتطبيق، أكدت لى أن المستقبل أفضل بمثل هؤلاء الذين قال لى أحدهم، «إحنا فى الجمعية قبل الثورة، وبالفعل نقوم بمشروعات مهمة، غير واثقين مبمدى تأثيرها على المجتمع، أما الآن وبعد الثورة شعرنا أنه من المؤكد أن ما نفعله سيغير ويحدث فرقا...» سألت د.زعزوع عن مدى مشاركة وزارة الصحة، فقال لى: أعتقد أن الوزارة لن تمانع فى دعم المشروع، لكن المشكلة أن عدم الاستقرار الوزارى لا يساعد فى إنجاز شكل هذا التعاون. يقول د.محمد زعزوع: «المشوار طويل، لكن الأفكار تتحقق وتتحول إلى أرض التنفيذ والواقع، وكما استطعنا توعية 5 آلاف أسرة فى أسبوع، سنتمكن من إتمام هدف مشروعنا للنهاية...» كما يقول هذا الشاب الرائع وأمثاله كثيرون «أطباء ومهندسين وجامعيين وطلابا وحرفيين ومن التراس، وعلى باب الله....» كل هؤلاء قالوا كلمتهم: «المهم البداية... «وها هم قد بدؤوا.. ولن يتراجعوا.. ونحن معهم!! واللعنة على من قال إن الشباب خرب البلد.. وأكمل عشرة الطاولة.