لم أصدق المشهد الذى أمامى. تصورت أننى أحلم فاقتربت لأدخل فيه، فمن الغريب أننى وجدت نفسى لا أحلم بل أنا داخل الحقيقة.. الطوابير طويلة.. البشر تشع منهم السعادة لدرجة ملحوظة لا يشعرون بالتعب مع أن الوقفة فى الطوابير طويلة والأمطار تنهمر بغزارة على الجميع وها هى السيدات المصريات الفضليات يتقدمن المسيرة بوجود كبير أمام مقرات الانتخابات. هكذا تحول الحلم إلى حقيقة. حلم أن نرى فى مصر انتخابات نزيهة وحرة وعظيمة ويشارك فيها الملايين. المشهد غلبنى وأخيرا تذكرت أننى جئت إلى الإسكندرية ممثلا لإحدى الجمعيات الأهلية المصرية لمراقبة الانتخابات أو كما يقولون بعد التعديل «متابعة الانتخابات». أكثر من 5 سنوات عشتها كمراقب لتلك الجمعية للانتخابات شاهدت فيها انتخابات مجلس الشعب 2005، ثم التجديد النصفى ل«الشورى» 2007، ومحليات أبريل 2008، والتجديد النصفى ل«الشورى» فى 2010، وأخيرا كانت مهزلة انتخابات «الشعب» 2010، وكنت أشفق على الجمعية وكوادرها وهى تعطينا دروسا كبيرة وجيدة فى مراقبة الانتخابات، وكنت أتساءل مع نفسى: لماذا هذا المجهود الكبير الذى يبذل ويذهب فى الهواء؟ فمن خلال مراقبتى لتلك الانتخابات لم نستطع ولو مرة واحدة أن ندخل لجنة لنطبق دروس متابعة الانتخابات بل كان الأمن والقائمون على العملية الانتخابية يمنعون أى مراقب من أداء عمله، ومع ذلك كان الجميع سواء فى الجمعية أو كوادرها ومتطوعيها، كلهم لم يفقدوا الأمل لحظة فى الوصول إلى حلمهم بمراقبة الانتخابات لذلك كانت انتخابات المرحلة الأولى لمجلس الشعب 2011 هى أول انتخابات حقيقية يتم فيها مراقبة الانتخابات، فلم أكن أعرف أو أعلم أن هذا «الكارنيه» المعلق على صدرى يمكن أن يفتح لى الأبواب بتلك الصورة التى رأيتها، فمن الجندى الواقف أمام باب اللجنة إلى قائده الواقف فى فناء المدرسة إلى القاضى الجالس داخل اللجنة، الكل يرحب والكل يفتح الأبواب مبتسما، سألت نفسى مرة أخرى: هل أنا فى حلم أم حقيقة.. ما الذى يحدث؟ فكان الرد بصوت عال من داخل إنها «دماء الشهداء». نعم إنها دماء أشرف وأنبل من فى شعب مصر. دماء سالت على أرض ميدان التحرير فى 25 يناير وفى 19 نوفمبر. دماء ذكية طاهرة مملوءة بعطر المطالبة بالحرية. تلك الدماء هى التى جعلت الحلم حقيقة، هى التى جعلت الملايين تقف فى طوابير الانتخابات وهى تعلم جيدا أنها ذاهبة إلى انتخابات حرة ونزيهة قادرة من خلالها على أن تصل إلى برلمان أقل ما يوصف به أنه غير مزور. دماء رفعت هاماتنا جميعا فى هذا اليوم المشهود وجعلتنا نشعر أن هناك أملا فى المستقبل وأننا قادرون على أن نفتح أبواب الديمقراطية والحرية فلا بد اليوم أن نتذكر تلك الدماء ونحيى شهداءنا الأبرار العظام ونقول لهم «شكرا» على ما قدمتموه لنا من نسمات الحرية. وأنا فى أشد الاستغراب والاستعجاب من تلك الأصوات التى لا يمكن إلا أن تتصف بالأصوات الغبية والجبانة التى وقفت تقول -سواء فى الشارع أو عبر شاشات التليفزيون- إن خروج المصريين إلى صناديق الانتخاب بتلك الكثافة دليل على أنهم ضد الميدان. لا أعرف بالضبط كيف فكر هؤلاء الأشاوس فى ذلك؟ وكيف يمكن لنا أن نتصور أن هناك انتخابات حرة شاهدناها اليوم ولم يكن السبب فيها أصوات وهدير أنبل وأشرف أصوات فى مصر من ميدان التحرير؟ مَن الذى أسقط الفاجر حسنى مبارك.. ألم يكن شباب التحرير وشعب مصر؟ مَن أدخل زبانيته إلى طرة.. أليس شبابنا الطاهر شباب التحرير بعد أن ضغط بمظاهرات حاشدة يطالب بالمحاكمة؟ مَن المسؤول عن انبهار العالم كله بما قدمناه للعالم فى أحداث ثورة يناير.. أليسوا هم ثوار الميدان؟ بفضل مََن ترتفع هامات المصريين فى العالم الآن.. أليس بفضل الميدان؟ مَن جهّز مصر كلها لاستقبال انتخابات حرة ونزيهة.. أليس ثوار الميدان؟ مَن أرغم الجيش والشرطة على الوقوف فى هذا المنظر المبهر يوم الانتخابات لحراستهم.. أليس الميدان؟ من الذى طرح السؤال الذى كنا نبحث عن إجابته منذ عشرات السنوات «لماذا يجلس المصريون فى البيوت ولا يخرجون للانتخابات؟»؟ الميدان أجاب، وقال إن الحرية هى التى تُخرِج الناس إلى صناديق الانتخابات فأعطانا الميدان الحرية فخرجنا جميعا. إن من يتصور، جاهلا أو متعمدا، أن ينكر أن ما فعله ثوار يناير ونوفمبر هو السبب الأساسى والفعلى فى أن نرى أنفسنا اليوم فى أنزه انتخابات فهو واهم أعمى لا يرى ونحن لا نحتاج إلى عميان بل نحتاج إلى مبصرين قادرين على كشف المستقبل مدركين للحقائق باحثين عن الحرية. الحرية التى لم نرها ولن نراها إلا بسبب الميدان. ميدان الشرف والكرامة. الميدان الذى جعلنا نستنشق نسيم الحرية.. يحيا الميدان ويحيا شهداؤه ويسقط العميان الذين ينكرون دوره فى ما رأيناه فى انتخاباتنا الأخيرة.. فترحّموا معنا على شهداء الميدان.