فى منتصف الستينيات أى منذ نحو خمسة وأربعين عاما عرض التليفزيون المصرى على النجم القدير الخالد فريد شوقى بطولة مسلسل «هارب من الأيام»، قصة ثروت أباظة وسيناريو فيصل ندا.. وقتها كان فريد شوقى فى قمة نجوميته وتألقه كوحش الشاشة الكبيرة، و«ملك الترسو»، لذلك رفض بطولة هذا المسلسل لأن بطله قروى ساذج مهان من كل أبناء القرية، الذين اتخذوه أضحوكة لهم، حتى نكتشف فى نهاية الحلقات أنه رئيس عصابة المطاريد التى نشرت الرعب والفزع بين أبناء هذه البلدة.. وقد وجد فريد شوقى -رغم إعجابه بالسيناريو- أن دور البطل لا يناسبه لأن الجمهور الذى اعتاد رؤيته فى أدوار البطل، والفتوة الشجيع، لن يقبله فى دور المجذوب الأبله، وهنا قرر المخرج الكبير نور الدمرداش أن يسند دور البطولة إلى وجه جديد ووافقه المسؤولون عن الإنتاج الدرامى فى التليفزيون المصرى على هذا الرأى لاقتناعهم بأن نجاح العمل الفنى يعتمد أساسا على جودة النص المكتوب وعلى حرفية تنفيذه فى عملية الإخراج، ثم ثالثا على إجادة تجسيد الشخصيات من خلال ممثلين جيدين بصرف النظر عن نجوميتهم، ومدى جماهيريتهم، فالعمل الجيد هو الذى يصنع النجم، أما النجم وحده فلا يمكنه أن يصنع عملا جيدا مهما كان حجم نجوميته.. وبناء على هذه القاعدة الذهبية فى الفن والإنتاج الدرامى تم إسناد بطولة مسلسل «هارب من الأيام» إلى الوجه الجديد عبد الله غيث، ونجح المسلسل نجاحا جماهيريا مذهلا وأصبح عبد الله غيث نجما قديرا بعد أن كان ممثلا مغمورا.. وهنا أحس فريد شوقى أنه أخطأ التقدير، ولكى يصحح هذا الخطأ قرر أن ينتج هذا العمل فى فيلم سينمائى بنفس الاسم، ولعب نفس الدور الذى رفضه من قبل.. وفى جلسة عائلية خاصة جمعتنى بأبى الروحى وحماى الحبيب الراحل فريد شوقى، سألته قائلا «بصراحة كده يا ملك مين عمل الدور أحسن، إنت ولّا عبد الله غيث؟».. فهبّ فريد شوقى صارخا وقال لى: «اخرس يا واد انت، أنا الملك وأنا أحسن ممثل فى مصر وفى الشرق كله، صح ولّا لأ»؟ فضحكت وأنا أقول له مداعبا «صح طبعا، ده كفاية إنك حماى».. وانتهت هذه الجلسة، وبينما أنا منصرف سمعت فريد شوقى يستوقفنى قائلا «بصراحة وبينى وبينك، عبد الله غيث عمل الدور أحسن، وأنا بنفسى قلت له ده».. وهنا ابتسمت فى وجهه قائلا بتقدير وإعزاز «علىّ النعمة انت ملك بجد».. رحم الله فريد شوقى وعبد الله غيث وكل أبناء وفرسان ذلك الزمن الفنى المحترم، الذين أمتعونا ولا يزالون بفنهم القيّم الراقى. ولنترك ذلك الزمن لنتحدث عن زمننا هذا الذى سميته زمن نجوم ونجمات «الأونطة» اللى بيهبشوا بالملايين، ومابنكسبش من وراهم حاجة، بالعكس بنخسر ماديا وأدبيا وفنيا كمان، فإلى عهد قريب كانت المسلسلات المصرية هى التى تسيطر على العرض فى كل المحطات العربية، وكانت الدولة تحقق من وراء هذا دخلا ماديا مهولا يساوى دخل قناة السويس، بالإضافة طبعا إلى الريادة الفنية والإعلامية، ثم فجأة وحينما سيطر الجهلاء الدخلاء على مقاليد أمور العملية الإنتاجية برؤوس أموالهم المشبوهة غير معلومة المصدر، أخذت العملية تنحدر فنيا وماديا إلى درجة أن المحطات والقنوات العربية لم تعد تقبل على شراء أعمالنا، وترفضها لضعف مستواها، كما حدث فى موسم رمضان الماضى، واستعاضوا عن أعمالنا بمسلسلات سورية وتركية وهندية ومكسيكية، بل وكورية أيضا، والسبب وراء هذا من وجهة نظرى يرجع إلى سيطرة نجمات «الأونطة» على مقاليد أمور العملية الفنية من الألف إلى الياء، فالنجمة «المحروسة» هى التى تختار المؤلف والمخرج والممثلين والملابس والديكورات وكل الحاجات، والمنتج الدخيل الجاهل يعطيها كل الصلاحيات فى هذه الأمور، ولهذا لا يستطيع أحد من طاقم العاملين أن يرفض لها طلبا حتى لا يُطرد من العمل بأمر النجمة الهانم والمنتج الهائم.. وحتى لا يكون كلامى نظريا مرسلا فسوف أذكر بعض الأحداث التى وقعت بالفعل فى عصرنا الفنى الحالى الردىء، فالراقصة الممثلة والصديقة العزيزة فيفى عبده دهشت ذات مرة حينما قرأت اسمها على تيترات مسلسل، ليس كممثلة، لكن كمؤلفة، ولم تكن دهشتى لأن هناك راقصة تؤلف فجأة دراما تليفزيونة بل لأننى أعرف جيدا أن عزيزتى فيفى لا تجيد ولا تعرف القراءة والكتابة أصلا! وما أقوله حقيقى أقسم بالله وليس نكتة.. حدث مدهش آخر وقع فى هذا المسلسل فقد اختلف المخرج هانى إسماعيل مع فيفى عبده حينما وجدها تتدخل فى صميم عملية الإخراج، وكانت النتيجة أن استبعد منتج المسلسل المخرج هانى إسماعيل واستبدل مخرج آخر به، هو تيسير عبود، إرضاءً لعيون فيفى. وليست فيفى عبده وحدها التى أصابتها حمى التأليف الفجائى، فالأخت سمية الخشاب وصلتها هذه العدوى فى مسلسل «طرح البحر»، حيث أعلنت أنها وضعت الأساس الدرامى القصصى لهذا العمل، وطبعا وزى ما كلكم فاكرين سقط المسلسل بامتياز، ولم يحقق دخلا ماديا يساوى ثمن الورق الذى كتبت عليه الست سمية أفكارها القصصية وعبقريتها الدراماتيكية.. أما الغندورة غادة عبد الرازق فقد تفوقت على فيفى وسمية فى مهرجان الفشل والسقوط الفنى، وذلك فى مسلسلها الأخير «سمارة»، فرغم أن هذا العمل مأخوذ عن مسلسل إذاعى حقق نجاحا منقطع النظير فى الخمسينيات، فإنه على يد الأخت غادة «طس فى الحيطة» ووقع على جدور رقبته نتيجة تدخلاتها الفكرية فى التأليف والإخراج، حيث غيّرت سيادتها وقائع وأحداث الرواية الأصلية بما يناسب مزاجها الفنى الذى عبّرت عنه بوضوح فى أغنيتها «الهانس فى الدانس يا إكسلانس»، التى قدمتها فى فيلمها التافه الفاشل «بون سواريه».. وبالطبع ونتيجة فشل مسلسل «سمارة» لم يتم عرضه سوى على قناة واحدة، أى أنه حقق أيضا فشلا تجاريا وماديا لم يغط عشر مبلغ «الاتناشر» مليون جنيه اللى أخذتهم «الخالة» غادة كأجر، كما لم يغط أيضا ثمن «المعسل» الذى كانت تدخنه على شيشتها طوال فترة التصوير. هذه هى الحال التى وصلت إليه الدراما المصرية على يد فيفى وسمية وغادة وأمثالهن، وفشل فنى وخسارة مادية.. وهؤلاء وأمثالهن خرجن من حلبة السباق، ولن يكون لهن وجود فى المواسم القادمة، لكن المشكلة ستظل قائمة إذا لم نغيّر من أسلوب العمل الفنى ذاته، ولم يغيّر المنتجون الجهلة من فكرهم العبيط، فاسم النجمة وحده لا يضمن نجاح العمل، لا فنيا ولا ماديا، بدليل ما سبق ذكره، ولن تنصلح الحال إلا إذا أعدنا للكاتب وضعه وقيمته وأعدنا إلى المخرج هيبته، وتركنا كل فرد يعمل فى ما يفهم فيه، ولا يتدخل فى ما يجهله.. فالفن الحقيقى يقوم على الفكر الراقى والفهم المستنير، ولم نر أبدا فنا ذا قيمة يقف على سيقان النجمات، مهما كانت هذه السيقان جميلة.