الهدف الرئيسى من الحرية، هو أن يحكم الشعب نفسَه بنفسه، وأن يصبح قادرا على اختيار مَن يمثلونه، ومَن يتحدثون باسمه، بإرادته الحرة ودون أى ضغوط سياسية أو دينية، وشعبنا قام بثورة عظيمة لكى يحصل على هذه الحرية ويتمتع بمكاسبها الكبيرة القادرة على صنع مستقبل أفضل، ربما ليس له ولكن لأبنائه وأحفاده وذريته من بعده. ولكن هذا الشعب نفسه عاش فى قهر طويل تدرّج مع مرور الزمن من قهر سياسى إلى قهر اجتماعى واقتصادى وربما دينى أيضا.. ولهذا، فهو يشعر بالخوف، إنه خائف من أن يعود القهر فى صورة جديدة، بعد أن أشرقت بارقة أمل فى أن يزول عن حياته نهائيا. وهذا الخوف طبيعى جدا نتيجة لمعاناة ستة عقود كاملة، وتداعياته الانفلاتية أمر طبيعى أيضا لأن الشعب المقهور أشبه بشخص مُقعَد يرى مَن حوله يعدُون ويركضون فى حرية، وهو مقيّد إلى مقعد ثقيل، لا يملك منه فكاكا... ثم فجأة، تحرّر من مقعده هذا، ووجد أن باستطاعته، مثل الآخرين، أن يعدو بحرية، فانطلق يعدو فى كل مكان، وطوال الوقت، وبلا ضابط أو رابط، وأحب هذا الشعور بالحرية والانطلاق، وعشقه، وباتت فكرة العودة إلى المقعد الثقيل تؤرقه وتفزعه وصار همّه الأوّل هو التخلّص من ذلك المقعد، وإلى الأبد حتى تنتفى أزليا فكرة عودته إليه، ولكنه فى غمرة هذا لم ينتبه إلى حفرة فى طريقه لو سقط فيها فلن يمكنه الخروج منها إلا بعد زمن طويل وبتضحيات أكبر ونتائج أعنف. المشكلة الآن أنه انتبه إلى الحفرة، بعد أن صار قاب قوسين أو أدنى منها، وملأ نفسه خوفٌ جديد مزدوج، فهو يخشى الوقوع فى الحفرة، ويخشى أيضا العودة إلى المقعد الثقيل، ولهذا فهو لم يكتف بتدمير المقعد، وإنما راح يطالب بمنع صنع هذا النوع من المقاعد، وبردم كل حفر الدنيا، والقضاء على كل من يمكنه صنع مقعد مماثل، أو حفر حفرة كبيرة، دافعه إلى مطالبه هذه هو الخوف، والخوف يلغى العقل والحكمة لأنه شعور أقوى من كليهما، وفى نفس الوقت، فلا أحد من حوله يشرح له أن المقعد ضرورى لوضع من يهددون أمنه وسلامته، وأن الحفرة يمكن أن تُزرع فيها شجرة باثقة، وليس من الضرورة تركها مفتوحة يسقط هو أو مَن حوله فيها.. وهنا يجتمع الخوف مع غياب المعرفة وغياب صوت الحكمة والنظرة المستقبلية البعيدة فتسيطر على الجميع نظرة تشاؤمية ترى المستقبل عبر منظار أسود وتصبح مشكلتنا الأولى لبناء المستقبل، هى القضاء على الوحش المفترس... على الخوف.