صوتها كان سعيدا فى الصباح. بشّرتنى: أصبح من حقى التصويت. فَرَح سجلت نفسها اليوم فى جداول الانتخابات. لم أتوقع أن يكون الشأن العام فى مصر من المجالات الأساسية فى الحوارات مع ابنتى التى وُلدت فى سنة الزلزال ولم تعرف مصر إلا فى لحظات انحطاط مبارك. فرح مثل أغلب جيلها اختارت الحياة فى مجتمعات صغيرة تنقذها من موجات الانحطاط العام التى اجتاحت مصر فى الثلاثين سنة الأخيرة بشكل جعل الانحطاط هو الأساس والخروج عنه فعلا استِثنائيا، ازدادت فخامة الملابس والسيارات وأنواع العطور وضخامة المبانى وأجساد الحراس الشخصيين.. بينما كانت كل هذه الفخامة والضخامة خلفها خواء مرعب. لم يكن المجتمع موجودا، كانت مجتمعات صغيرة، أو ما يُعرف بالجيتو، تعيش حياتك متعاليا ومترفعا عن الجو العام، والانحطاط الذى يملأ الأفق. فرح دخلت المدارس فى لحظة احتقار كل ما هو عامّ من التعليم العامّ إلى الأوتوبيس العامّ مرورا بالفرح العامّ، بحثنا لها عن مدرسة مصرية لا تشرب فيها الانحطاط ولا تغترب فيها عن واقعها، وجدنا بصعوبة شديدة، فى آخر المواقع التى كانت تقاوم بصعوبة. كنت مرعوبا من مجتمعات العزلة، لكنها كانت مثل حفظ النوع، كيف تربى أولادك على الحرية فى مجتمع ليس حرا؟ كيف تدفع أكثر من تلثى دخلك فى تعليم ينهى علاقتهم بالإبداع والخيال والابتكار من أجل شهادة كل مهمتها العثور على وظيفة؟ كيف تشارك بتربيتك ابنك فى مؤامرة الانحطاط؟ كان هذا هو السؤال الذى يصارع الخوف من مجتمعات العزلة... وكان العزاء هو الحصول على تعليم جيد، يحرض على التفكير، وتقوية القيم البعيدة عن الزيف والنفاق الاجتماعى. وكلما كانت فرح تكبر، كان هاجس الخروج أو الهروب من مصر يزداد، وكنت أشعر بغصة فى قلبى، لا أعرف سرها بالضبط لأنه فى اللحظة التى كنت أريدها فيها أن تقيم هنا كنت أخاف عليها من طوفان الانحطاط. سافرت فرح إلى باريس للتعلم فى جامعات عامة، وفى بلاد لم تحتقر بعدُ كل ما هو عامّ وتتعامل مع التعليم العامّ باحترام وتقدير، فليس المهم أن تكون غنيا لتنال تعليما محترما (وبالطبع علاجا أو مواصلات محترمة). رغم قسوة الحياة فى مجتمعات أوربا، فإن هناك مساحة للحياة المحترمة فى ظل برامج عامة لا تتعامل الدولة على أنها منح أو تفضل منها.. إنها حقوق فى ظل مجتمع لم يترك للرأسمالية فرصة التوحش ولا لمنطق «نشترى كل شىء بالفلوس» أن يتحكم فى المجال العامّ. استفادت فرح من المجال العام فى باريس وحصلت على تعليم أرخص بمراحل من التعليم الذى كان يمكن أن تحصل عليه هنا ويضعها فى تفاوتات اجتماعية مربكة. ... هل تخلصت فرح من أى جاذبية تربطها بالبلد الذى لم أستطع الحياة فى غيره؟ ... شغلنى السؤال... إلى أن حدثت مفاجأة 25 يناير واكتشفنا جميعا أن المجال العامّ لم يفسد كله، لم تعد كل مشاركة جمعية كابوسا يفضى إلى الموت أحيانا. الثورة فتحت مجتمعات العزلة، أو بمعنى آخر استطاعت مجتمعات العزلة أن تحرر المجال العامّ من جديد وتصنع معجزة الميدان. هنا اكتشفت فرح مصر من جديد... عادت.. وشاركت فى الثورة وأصبحت كل تفصيلة مهمةً بالنسبة إليها من موقعة الجمل إلى مذبحة ماسبيرو ومن تنحى مبارك إلى رفض الجمهورية العسكرية ومن الحرية الشخصية إلى حق التصويت فى الانتخابات. لم تعُد مصر مجالا للفزع. هذا اكتشاف فرح لا اكتشافى. أصبح ممكنا الحلم هنا والتحرر هنا وإدراك أن هذا البلد يخصنا ولسنا فيه ضيوفا ثقلاء على الدولة. نقلت مجتمعات إنقاذ النوع روحها إلى مجال أكبر، تدخل فيه يوميا معركة مع انحطاط يمد شبكاته وينسج خيوطه منذ سنوات طويلة. لم ينتصر الخيال ولا الحرية بعد، لكن الانحطاط فقد سيطرته وأصبح الأمل أكبر فى إعادة مجال عامّ يتسع للجميع ولا يتحول كل اتصال فيه مع الجماعة إلى كابوس. المشوار طويل، ويمكن «لسه ف أوله».. لكنه بدأ، وخرجت فرح من مجتمعها المغلق إلى اهتمام بالشأن العامّ، وكل صبح تسألنى «إيه الأخبار؟»، ولا يعنى ذلك أنها تسألنى عن أحوالى أنا فقط.. لكنها تريد معرفة ما يحدث فى البلد. و... هذا ليس قليلا لو تعرفون.